المحلّلون السياسيون بين تهمة الاستزلام والقيم المهنية
البيئة السياسيّة ليست بخير بتاتاً، وكذلك البيئة الإعلامية التي تجمع إلى نُبل الرسالة الإعلاميّة سلبيّات الطّموحين من عامّة الناس، ومفاسدَ أهلِ السّلطة، وتقاليدَ الاستتباع.
وقد حذّر مِن وضعِ المؤسساتِ الإعلاميةِ وقِيم العملِ فيها إعلاميّون كثيرون، عبر أقوال لهم وكتابات وتغريدات، ما يجعل الوقفة الاحتجاجية أمام وزارة الإعلام في بيروت ضدّ استضافة السياسيين في البرامج الحواريّة صرخةً مفيدةً على طريق تقويم اعوجاج السياسية في الخطاب والممارسة، فيما يبقى المُلِحّ إنقاذ المواطن من تراجع القيم في الوسط الإعلاميّ وتغوّله.
في هذا الإطار، يأتي اتّهام النائب جميل السيد لإعلامي محلِّل- لم يذكر اسمه – بتقاضي الأموال من جهة محدّدة (بسبب سرده أحداثاً يُنكر النائب حصولها، ويعتبرها إساءة له، بل يجزم بأنّها معلومة مدفوعة الأجر) دعوةً للمعنيين بالقطاع إلى العمل على بعث القِيَم المهنيّة وترسيخها بدل الاستسلام ومجاراة الوضعين السياسيّ والماليّ.
في هذا السياق، نتعرّف وجهاً من وجوه الإعلام المثيرة عبر التوقّف عند ملامح المحلّل السياسي، وكيف يراه أهل المهنة والاختصاص!
عقيل: المحلّل السياسي كلمة كبيرة!
يقول الزميل رضوان عقيل (صحافي وكاتب في جريدة النهار) في جوابه عن سؤال “أحوال” بشأن المحلّل السياسيّ: “المحلل السياسي كلمة كبيرة بتقديري، ومن يستحقها هو شخصٌ مخضرمٌ في العمل الصّحافيّ أو السياسيّ؛ فهذا العنوان ليس لكلّ من هبّ ودبّ. أذكر أن الصّحافي الراحل غسان التويني عندما كان يُسأل كان يقول: “أنا صحافي””.
خبير استراتيجي وفاشل!
ويتنبّه عقيل إلى تعريفات أخرى، تُطلق على المتحدّثين في البرامج الحوارية، بصفتهم محلّلين عسكريين واستراتيجيين، فيقول: “كيف يُمكن استسهال إطلاق الصفة؟ حتى لو خدم مدّة 40 عاماً في السلك العسكريّ أو الأمنيّ، فلا أستطيع وصفه بالخبير لأن حياته العسكرية قد تكون فاشلة! فكيف سيقدّم مادّة سياسيّة؟”.
ويتهكّم بالقول: “هناك الخبراء الاستراتيجيّون الذين يقدّمون تحليلات من هنا حتى فنزويلا، وليس لهم علم بفنزويلا ولا بأهلها، فكيف يصحّ ذلك؟”.
الإعلامي ليس قاضياً!
ينتقد عقيل عدم التزام الصحافيين والإعلاميين دورهم المهنيّ، وهم الذين تعوّدوا تعدّيه إلى مجالات أخرى، خصوصاً في الإنابة عن المجتمع والجهات الرقابية المعنيّة، فيقول: “أنا مع إعداد ملفات تُشكّل فضائح، لكنّني لست مع حمل الملفات إلى القضاء، وأن أحلّ محلّ القضاء، فأحاسب وأجرّم وأبرّئ…”.
محللٌّ.. ولا يكتب؟!
ويحذّر عقيل من التحليل السياسي المبنيّ على خلفيّات عصبيّة دون محتوى لائق، فيقول: “نرى مجموعة من المحلّلين يمثلون الأحزاب السياسيّة، ويطلعون على الشاشات حيث يدافعون عن تلك الأحزاب، والبعض ليس له في حياته كلّها سوى 4 مقالات… محلّل سياسيّ ولا يكتب؟!”.
لا تحليل دون معرفة وخبرة!
من جانب آخر، يؤكّد عقيل وجود” مجموعة من المحلّلين ذوي التجربة، نتيجة معايشتهم حياةً سياسيةً في مكان ما، كالذين استقرّوا في تركيا وعايشوا سياستها، أو كالذين أمضوا عقوداً في فرنسا، وأستطيع القول إنهم خبراء في السياسية الفرنسية. ولهم علاقات مع الإليزية… ويفهمون في السياسة الفرنسية”.
إعلام وأجهزة وارتباطات غير بريئة
في المقابل، يرى عقيل أن “ثمة الكثيرين من المحلّلين مرتبطون و”غرقانين” مع أجهزة سياسية ودبلوماسية… وثمّة القليل من المحلّلين الذين يقدّمون بشفافية وموضوعيّة”. ويضيف: “صحيح أن مصدر الأخبار العصبَ الأساسي لأيّ كاتب ومحلّل سياسيّ وصحافيّ؛ وأعترف أنّني كلّما كنت قريباً من المراكز السياسيّة والقوى السياسيّة كنت أملك المعلومات وأستطيع استثمارها في إجراء التقاطعات وتقديمها في مقالي الصحافي، لكن الأساس ألا يكون الصحافيّ والمحلّل مطيّة لهذا الفريق أو ذاك. وبمجرد أن أوقّع اسمي فأنا مسؤول أمام القارئ، ومن حقه أن يُحاسبني، سواء أصبت أم أخطأت”.
لكن عقيل يرى في ارتباط الصحافي والمحلّل “بجهة سياسية واحدة، خطأ، والأفضل أن يكون له مروحة من العلاقات. البعض ممن أتواصل معهم لا تعجبهم المضامين السياسية لديّ، لكنّه يحترمون عملي ومقاربتي المهنيّة؛ فليس من اللائق ولا المهنيّ تضمين المقالة معلومة خاطئة أو توجيه اتهامات دون دليل”.
التسريب آفة التحليل
ويؤكّد عقيل “وجود التسريب بقوّة في الوسط الإعلامي، لكن بحكم الخبرة يصبح الصحافي قادراً على فلترة المعلومات. وأرفض أن تقوم بجهة أمنية أو سياسية بإعطائي معلومة، لا أكون متأكداً من صحتها، أو تريد تزحيطي بها، أو تسريبها، أو تستهدف بها فريقاً سياسياً…”.
د. عبيد: المحلّل ضرورة لكن الأستذة ممقوتة
من موقعه الأكاديمي، يرى البروفيسور أياد عبيد (أستاذ الإعلام والتسويق السياسي والرأي العام والدعاية في الجامعة اللبنانية) أن “المحلل السياسي موجود منذ عهد بعيد في المؤسسات الإعلامية والصحافية، وموجود في أعرق المؤسّسات الإعلامية الليبرالية الغربية”.
لماذا ؟
يُجيب: “لأن أيّ مؤسسة لديها سياسة، أي مجموعة رسائل تحليليّة، وتريد إيصالها إلى الجمهور، فتعمل من خلال المحلّل على تحليل المعطيات وفق رؤيتها، وبالتالي وفق سياستها التحريرية”.
لكن د.عبيد يأخذ على المحلّل السياسي حالة “الأستذة”، ويعتبرها “مشكلةً، وتنفّر الجمهور؛ والناجح من هؤلاء هو الذي يوصل المعلومات إلى الجمهور من دون أن يظهر أنّه أستاذ”.
ويضيف د.عبيد: “الأستذة أو الغطرسة أو الغرور لدى المحلّل لا يتقبّلها الجمهور الذي يريد أن تنبع القرارات من عنده؛ وعلى المحلّل أن يقدّم المعلومات إلى الجمهور بطريقة تنويرية لا بطريقة الفرض”.
التحليل السياسي يخضع لمقاييس المؤسسة دائماً
ويؤكّد د.عبيد أن “المحلّل السياسي أداة من أدوات التسويق السياسيّ، فلا يوجد تحليل سياسي من أجل التحليل وإعلام من أجل الإعلام”.
ويُضيف: “المحلّلون الذين لا تروق سياستهم التحليلية للمؤسسات الإعلامية يخرجون من سوق الاستضافة مرة ثانية، فالمؤسسات تريد محلّلاً سياسياً بناءً على مقاييسها السياسية”.
دور المحلّل السياسيّ أساسيّ
ويجد د. عبيد أن “موقع المحلل السياسي مهمّ جداً، ورئيسٌ وأساسٌ، حتى يتلقى الجمهور الرسائل وفق أهداف مرسومة. وهذه الأهداف هي التي تخدم السياسة العامة للمؤسسة التي يعمل فيها هذا المحلّل. والمؤسسات لديها سياسة عامّة واضحة المعالم تخدمها وتعمل من أجلها”.
ويشدّد د.عبيد على أهميّة المصادر المتعدّدة لدى المحلّل السياسي، ويقول: “أن يعتمد المحلّل على مصادر متعدّدة، وأن يطّلع بشكل كبير على الأحداث وعلى آراء الآخرين، وأن يطّلع بشكل سليم على الآراء والآراء المضادة يعني أن تتوفر له كل المعطيات والمعلومات التي توصله إلى الحدث”.
ويرى د.عبيد أن “قوة إيصال المحلّل رسالته تعتمد على قوته في منهجية التحليل، وعلى العرض والعرض المضادّ والاستنتاج، وبالتالي على فهم الجمهور وسيكولوجيا الجمهور وثقافة الجمهور الذي يتوجّه إليه”.
المحلّلون السياسيون: مقيمون وعابرون
ويدعو د.عبيد إلى التفريق بين المحلّل الثابت والآخر العابر في حياة المؤسسة، فيقول: “في بعض الأحيان، تستضيف المؤسسات محلّلين للتعبير عن الرأي والرأي الآخر حتى تبيّن أنها حرّة، وعلى مسافة من الجميع؛ وهذا ليس صحيحاً، لأنها تعتمد محلّلاً معيناً… كمحرّر الشؤون السياسية في الـ بي بي سي ومونت كارلو…”.
المحلّل السياسي يعالج كل شؤون الدنيا!
وينحاز عبيد إلى المحلّل المتخصّص الفاهم موضوعه بشكل جيّد، ويقول: “أنا مع المحلّل المتخصّص في أمر محدّد أو مناطق محددة فيكون أكثر قوّة ومتانة فيما المحلّل العام الذي ينبري للحديث عن كلّ شيء تكون نقاط ضعفه واضحة”.
ويبقى من المهمّ في ظاهرة المحلّلين السياسيين أن يُحافظوا على معايير مهنيّة جديرة بالتقدير، من خلال التركيز على السياسة أكثر من تركيزهم على القوى السياسية والأقطاب، ومن خلال التركيز على المعطيات والمناهج والتحليل أكثر من استعذابهم تكرار كلام الزعماء والتباهي بمصادر المعلومات والاعتزاز بمروحة العلاقات والنفوذ.
طارق قبلان