“حادث قلب” الحبكات والإثارات المفتعلة مقبرة العمل وضياع لكل جهدٍ فنّي
أب مقعد لا حول له ولا قوّة، أب مريض يواجه آخر أيام حياته بالكتمان والاستقواء على نفسه وكتم أوجاعه.
أب يواجه الافلاس ضائع بين أمكانية أن ينشل نفسه والاتكاء على ابنته التي قد تجد جسر الخلاص.
أب انتهازي يشجع ابنه على زيجة من أجل حفظ الثروة والمكانة.
أب قامع جاهل يسد الطريق في وجه طموحات أبنه.
مشفقة حال الآباء في مسلسل “حادث قلب” كلهم يرتعدون. يلبسهم الضعف والوهن والجهل والضيق والانهيار. الأب السند غائب ومعه غابت الفكرة النيّرة التي سطرت أرواح أبائنا. كيف اجتمعوا كلهم في حلقة الفراغ وأحداث النكبة وأجواء الوهن وما وجدنا فيهم وتداً ولا حصانة ولا رصافة؟
أما الأم الحاضرة هنا فهي مسرفة مدللة كاذبة، موسومة بالادعاء والسطحية ونهب مال زوجها واللهاث خلف الثراء ولو على حساب سعادة أبنائها. صورة أمهاتنا الطيبة الحنونة المضحية غائبة. صورة الأم التي تصنع من القلة خمير لعجنة أبنائها غير موجودة. الأم التي تقف في وجه الدهر وفي وجه الزوج الضال وفي وجه الكون من أجل ارتقاء عائلتها مفقودة. صورة الأم هزيلة ومرّة. والحسرة تأكل قلبنا كلما تابعنا المزيد من هذا الضياع المقيت بين ضعف الآباء وجهل الأمهات.
سمي الفن فناً لأنه يخاطب أرواح البشر ولأنه يمسح قلوبهم بالعاطفة والجمال، ولأنه يوثق مفاهيم الانسانية الراقية ولأنه امتداد لصور مبهمة في افكارنا ووجداننا ووجدناها حقيقة واقعية.
الواقعية الأكثر جذباً في “حادث قلب” هي واقعة الاغتصاب. ويا لها من واقعة! هذا الاغتصاب الذي يهز كياننا حسرة وخوفاً ومقتاً. والذي أشعل فينا كل غضب. هو كل ما حصدناها حتى الساعة. نترقب التماهي في هذا العمل الفني فلا نجد امتداده سوى بالمقت والرفض لكل ما يدور من احداث. حتى في واقعة الاغتصاب هناك اغتصاب للمشاهد أيضاً، لا يريدنا الكاتب أن نتنفس وأن نفرح للثأر وأن ننهض يريدنا كلنا أن نتلطخ بالوجع وأن تصيبنا كدمات الروح. فعلى وسع السوداوية التي تلف هذا العمل والذي لم نجد فيه حتى الأن حادث قلب. بل حادث فجيعة وحادث سقوط وحادث رذيلة.
فتاة تعاشر وحشاً، وبعد سنوات اكتشفت أنيابه. فابتعدت عنه، وعند أول فرصة عاد والتهم فيها كل نقاء ورماها ملطخة بأوجاعها وفجيعتها. الى هنا قلنا إن هذا يحدث يومياً في مجتمعنا وفتيات كثيرات يتعرضن للاغتصاب. لكن الوحش في مسلسلنا هذا لم يكتف منها بل لحق بها الى مشفاها وعنوة ومن غير أي بعد منطقي وحبيبها يحرسها ويسهر على مصيبتها، جاء الوحش مرة أخرى متخفياً ذكياً الى حد خارق وهمس لها وأفزعها ولم يكتف من نزيفها ولا من خوفها. وحبيبها الحارس غائب. غريب أمر هذا الحبيب الضعيف البسيط الساذج. وأكثر من هذا استطاع الوحش أن يخرق أمن المستشفى وكل الملائكة الساهرين من ممرضات وأطباء وعاملين في المختبر ويخطفها. من حسن الصدف أن نقابة المستشفيات لم تقم دعوة على هذا الحدث الذي يلطخ سمعتها بالإهمال.
لم يكتف الكاتب أو المخرج أو أياً كان من هذه اللعبة المقيتة السافرة المقززة . أرادنا نحن المشاهدين أن نغتصب أيضاً. اغتصبنا عندما كان الحبيب ” وسام صليبا” الغني الثري والشاب القادر والمقتدر والمنفتح المتنور يأتي بحبيبته المغتصبة الى بيتها حيث وقعت الواقعة، ويصلح مزلاج البيت ترقيعاً دون باب أو قفل عليه القدر والقيمة ودون أن يضع لها كاميرا على عتبة البيت. ما هذه المهزلة! فيأتي الوحش مرة أخرى الى بيتها دون أي وازع أو رادع. وتحت شعار التشويق تترك المغتصبة في بيتها وحيدة ليلاً وهي تعاني الخوف بانتظار أن يأتي صديق الحبيب “كارلوس عازار ” ليحميها. هذه السفسطائية في التعامل مع حدث الاغتصاب لا يحدث لا في مجتمعنا ولا في أي مجتمع. هذه السقطة وهذا الضعف في خلق حبكات وإثارات مفتعلة غير منطقية هي مقبرة العمل وضياع لكل جهد فني.
وحده كارلوس عازار” فادي” وستيفاني عطا الله “سمر” يحملان زاد الخير ومعاني الأصالة. بكثير من العفوية الناضجة والأداء الممتاز يعبرودان في أضواء الكاميرا نحو قلوبنا. نحملهما أكثر من طاقاتهما علّهم يشدان كل القطب المرخية ويعيداننا الى شطأن نرجوها بالخير والفأل. على أكتافهما يتوقع المشاهد أن يرفعا كل هذه الإخفاقات نحو مزيد من ملىء الفجوات.
ممثلون كبار يقومون بما أسند لهم بكل حرفية. لكن أفعالهم ليس فيها هذا الكبر. لا يستوي أي عمل فني أن لم يكون فيه الخير يقارع الشر والأبيض يناطح الاسود وأن لم يغلبه لكن على الأقل أن يكون قادراً على نسج بطانة رمادية يمكن أن نطرز عليها القليل من أحلامنا وحياتنا.
رندا العلم مخرجة هذا العمل نجحت في نسج مشهدية جديدة من خلال لقطات تعيدنا الى باطن وجداننا، ترسم الشروق والغروب والأزقة وتعيد تكوين الأمكنة بعدستها والموسيقى التي ترافقها بالكثير من شد عصب المشاهد نحو المتابعة والدهشة.
غريب أمر الفن عندما يكون مخثراً يصبح القليل منه كثير. وهذا هو حال الممثلة كارول عبود التي ما أن أطلت حتى حفرت. نظراتها صوتها المتهدج سهوها حنانها قهرها كأنها الدبق فوق الروح.
“حادث قلب” يبقى عملاً محلياً يُقدّر على اخفاقه وعلى نجاحه. فنحن في زمن القلة وأي انتاج يشكل أضافة ومجازفة ومغامرة لا يمكن الا أن نشجعها حتى ولو كانت أقل من مبتغانا.