قصتنا مع كورونا…يوم ظنّنا أنّ العالم مركب واحد فأعدّت لهم قوارب نجاة وتُركنا نحن نغرق
نختنق اليوم ونحن نسترجع تفاصيل قصّتنا مع “كورونا”، يوم ظننّا في الحجر الأوّل في آذار 2020، أنّها مسألة أسابيع، نعايش ما عايشه أسلافنا من أوبئة عالميّة سيكتب عنها التّاريخ، ونخرج حتماً منها منتصرين، فاليوم الطبّ متطوّر، ونحن أبناء الألفيّة الثالثة لن نموت كما مات أسلافنا بالطّاعون، يومها كان حتّى الرّشح يقتل.
في الحجر الأوّل، كنّا نعتقد أنّ الأمر يتطلّب بضعة أيّام، نجلس فيها في المنزل، يتمّ فيها محاصرة الوباء ونعود إلى حياتنا الطبيعيّة.
بعضنا أغرته فكرة العمل عن بعد مؤقّتاً، والبعض الآخر وجد فيها فرصة لقضاء الوقت مع عائلته بعيداً عن ساعات الدّوام الطّويلة، لم يكن أيّ منّا في أسوأ كوابيسه، يتخيّل أنّ هذا الإيقاع ستسير عليه حياتنا إلى أجلٍ غير مسمّى.
يومها خرج علينا البعض بنظريّة أنّ “كورونا” جمع العائلات من جديد و”شكراً كورونا”، إلا أنّ العائلات التي تحتاج إلى وباء ليجمعها قسراً بين جدران أربع، هي نفسها التي سجّلت مؤشّراً مرتفعاً للعنف الأسري، أثبت أنّ ثمّة روابط أسريّة قائمة، فقط لأنّ عمادها أشخاص لا يلتقون إلا نادراً، فأشعل لقاؤهم القسري حرباً تشظّت بعدها الكثير من العائلات وتهدّمت جدران الكثير من المنازل.
ناشطون بيئيّون يومها خرجوا علينا أيضاً بنظريّة أنّ الأرض اليوم تتنفّس الصّعداء، وأنّ الطّائرات التي لم تعد تطير، والسّيارات التي لم تعد تسير إلا بالحدّ الأدنى، والمصانع التي أقفلت أبوابها_ ظننا يومها أنّ الإغلاق سيكون مؤقّتاً_ أراحت الأرض من الانبعاثات السّامّة، وأنّ الطّبيعة انتقمت من الإنسان عدوّ البيئة.
في الحجر الأوّل، كنا نراهن على تطوّر الطّب، وأنّ هذا الوباء الذي أصاب الغرب ودوله المتطوّرة قبلنا، لن يقف مكتوف الأيدي، وأنّ فرقه الطبّية ستستنفر لتجد الدّواء عاجلاً أو آجلاً، لم نتخيّل أنّه بعد مرور سنة على اكتشاف الوباء، سيكون الحديث عن لقاح لا يزال في مراحله التّجريبيّة ونحن فئران تجارب، وليس عن دواء لمرضٍ مصنّف في خانة أمراض “الرّشح”.
يومها، كنّا نعتقد أنّ “كورونا” يقتل كبار السّن فقط، وراجت نظريّة أنّ الدّول المتطوّرة “طوّرت” الفيروس للقضاء على فئة من المجتمع تستنزف خزينة الدّولة بمعاش الشيخوخة، ثم تبيّن أنّ الفيروس يسير خبط عشواء يقتل البعض ويمرّ على البعض الآخر كحساسيّة خفيفة في يوم خريفي، دون أن يميّز بين كبير وصغير، لا منطق يسيّره فكلّ منطقٍ يفسّر طبيعة الوباء ينسفه آخر، وكلّها نظريّات صادرة عن أهل علمٍ لا يعلمون شيئاً.
في الحجر الأوّل، كنّا نعتقد أنّ كوكب الأرض كلّه مركب واحد، إن غرق نغرق جميعاً، فالوباء لم يميّز بين الدّول النّامية والدّول الغنيّة، بين الدّول التي تمرض وتنتظر حبّة دواء من دولٍ تمرض وتصنع الدواء وتصدّره لكل المرضى.
خطف الوباء أرواح الكثير من الأوروبيّين والأميركيّين، في وقتٍ كنّا في دولنا النّامية بسرعة سلحفاة عاجزة، نتفرّج على المشهد المهيب نتعاطف ونشكر الله أنّنا لم نذق لوعة هذا الاختبار المرّ.
اليوم ومع وصول اللقاح، انقلب المشهد، لم يعد الكوكب مركباً يغرق راكبوه سواسيّة، البعض خُصّصت له مراكب نجاة، على مرأى منّا نتفرّج ونتحسّر ونحن نلفظ أنفاسنا الأخيرة.
هم يبحثون عن زيادة عدد اللقاحات المستوردة، ونحن نبحث عن زيادة عدد عبوات الأوكسيجين والأسرّة في المستشفيات.
في الحجر الأوّل، كان مشهد السّاحات الفارغة مهولاً، كان أشبه بفاجعة، اليوم أصبح مشهد السّاحات المكتظّة الفاجعة نفسها.
كان مشهد النّاس يسيرون بكمّاماتهم مستغرباً، اليوم بات المستغرب أن تسير دون كمّامة.
في الحجر الأوّل كنّا نظنّ أنّنا يوماً ما، سنجلس مع أحفادنا، وسنخبرهم أنّنا عايشنا وباءً خرجنا منه منتصرين، اليوم ونحن نلملم أذيال الخيبّة بطاقاتٍ شبه معدومة، نتساءل هل سيبقى بيننا “مخبّر” يخبر الأجيال القادمة أنّ وباءً قاتلاً هجم علينا في سنة انهارت فيها الليرة، ودمّرت العاصمة، وانقطع الدّواء من الصّيدليات، وأصبح الحصول على حبّة بانادول أشبه بربح جائزة لوتو، وبدأنا نودّع أحبّاءنا واحداً بعد الآخر؟
يسير القطار بسرعة جنونيّة نحو الانهيار، يسبق بعضنا الآخر، ومن ينجو، سيكتب يوماً على طريقته قصّتنا مع كورونا… وقد لا يفعل على قاعدة “لا تنذكر ولا تنعاد”.