سياسة

الملعب السوري: كيف تتحرك إسرائيل بقواعد اللعبة وتعيد رسم خريطة الصراع

في مسرح الأزمات السوري المتشابك، حيث تتصارع الأيديولوجيات والمصالح الدولية، تبرز إسرائيل كلاعبٍ رئيسي يتحرك بقدرة مذهلة على فرض قواعده الخاصة.

ليست التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، سوى حلقة في مسلسل طويل، لكنها حلقة تكشف النقاب عن استراتيجية عميقة ومتفوقة.

 

تصريح هز خريطة التوازنات

لم يكن تصريح نتنياهو بأن إسرائيل “منعت تركيا من التقدم إلى وسط وجنوب سوريا” مجرد تفاخر انتخابي عابر، كان رسالة ذات طبقات متعددة:

  • للداخل الإسرائيلي: تأكيد صورة “الدولة الحصينة” والقائد القادر على حماية حدودها ومصالحها الاستراتيجية من أي تهديد، سواء كان من ارهابي الجولاني أو تركياً بعد اخراج ايران من سوريا
  • لأنقرة: تذكير واضح بأن هناك خطوطاً حمراء إسرائيلية في سوريا، وأن اللعبة الكبرى لها قواعد لا يمكن لأحد تخطيها دون إذن
  • لموسكو: إشارة إلى فاعلية التنسيق الأمني بين الجانبين، وأن إسرائيل شريك لا يمكن الاستغناء عنه في إدارة الملف السوري

هذا التصريح لم يأت من فراغ، لقد جاء ليُعرِّف بشكل قاطع من هو صاحب الكلمة الأولى في تحديد من يدخل ويخرج، ومن يتقدم ويتراجع في سوريا عموماً والجنوب السوري خصوصاً.

 

الاستطلاع قبل العاصفة: تحديث بنك الأهداف

بعد ساعات من هذا التصريح، جاءت التحركات الميدانية لتؤكد النظرية، إذ لم تكن الطلعات الجوية التي نفذها صباحاً سرب إسرائيلي بطائرتي “نحشون” و”شافيت” مجرد دورية روتينية. حسبما أشارت تقارير استخباراتية، كانت المهمة ذات هدفين واضحين:

  • تحديث “بنك الأهداف”: وهو مصطلح عسكري يعني إعادة مسح ومراجعة وتحديث قائمة الأهداف المحتملة (مستودعات أسلحة، مقرات قيادة، تحركات لأفراد ) لجولاني وعصاباته استعداداً لضربات مستقبلية. إنه إجراء استباقي يضمن أن تكون الضربات دقيقة وفي الوقت المناسب.
  • مراقبة النشاط الجوي: رصد أي تحركات للطائرات المسيرة أو الطيران الحربي في المجال الجوي السوري، خاصة تلك لتركيا ولسلطة الامر الواقع التي يترأسها الجولاني. إنه تأكيد على السيطرة على المجال الجوي وإلغاء سيادة سوريا عليه بشكل شبه كامل.

ظهور طائرات “نحشون” التجسسية المتخصصة بعد الطلعات الحربية كان الإشارة العملية على أن مرحلة جمع المعلومات قد اكتملت، وأن مرحلة التنفيذ على الأهداف.

 

الاستهدافات: رسائل موجهة ومدروسة

لم تترك إسرائيل مجالاً للشك في نواياها، فمع حلول الليل، بدأت سلسلة الاستهدافات الدقيقة التي تحمل كل منها رسالة:

  • استهداف مستودعات ذخيرة في ريف درعا وحماة: هذه ضربات تقليدية تهدف إلى إضعاف البنية التحتية العسكرية لمسلحي الجولاني، والحد من قدراتها العسكرية أو شن هجمات، إنها رسالة مستمرة لتركيا وحلفائها: “نحن نراقبكم، ونحن قادرون على تدمير ترسانتكم في أي وقت”.
  • القصف على طريق درعا – دمشق: استهداف آليات مسلحة على طريق رئيسي ومقتل 12 شخصاً من العشائر ومن عصابات الجولاني، يحمل بعداً أكثر تعقيداً، فهو من ناحية يهدف إلى عرقلة تحركات العصابات، ومن ناحية أخرى يرسل رسالة ردع للمجموعات المحلية، مفادها أن أي تحرك عسكري يمكن أن يكون له ثمناً باهظاً.

 

الاستراتيجية الكبرى: السيطرة من دون احتلال

ما تقوم به إسرائيل في سوريا هو نموذج متقدم لحرب “الهيمنة من بُعد”. إنها لا تسعى لاحتلال أراضي جديدة، بل لتأسيس قواعد ارتباط تخدم أمنها القومي:

  • فرض الردع: عبر ضربات متكررة تجعل الخصم يحسب ألف حساب قبل أي عمل قد يضر بإسرائيل
  • إدارة الصراع: منع أي طرف (من تركيا الى سلطة الجولاني) من تحقيق او التفكير في تحقيق اي تفوق استراتيجي يهدد أمنها
  • المرونة التكتيكية: القدرة على التصعيد أو التهدئة حسب الموقف، والرد على الرسائل السياسية بتحركات عسكرية، كما في الرسالة الموجهة للأمريكي بأن إسرائيل “ستعمل كما تريد” إذا تم الخروج عن الاتفاقيات

 

الرسالة التي أرسلها المسؤول العسكري السوري لوكالة رويترز تلخص الجوهر: “إسرائيل غير مستعدة للتخلي عن أي مكاسب”.

المكاسب هنا ليست أراضي بالضرورة، بل هي “مناطق نفوذ أمني” وسيطرة على قواعد اللعبة. إسرائيل تثبت أنها السيد الحقيقي للهواء والأرض في الجنوب السوري، وتجبر الجميع على اللعب وفقاً لاستراتيجيتها، التي تتحرك فيها بكل راحة وكأنها في ملعبها الخلفي.

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى