
في بلدٍ تُثقل كاهله الأزمات من كل صوب، باتت حتى أبسط حقوق المواطن، كاستخراج إخراج قيد أو سجل عدلي، مغامرة مالية جديدة. لذلك، لم يعد الحديث عن “رسوم المعاملات”، بل عن سوق مفتوحة بلا ضوابط، يتحكم بها من يفترض أنهم واجهة الخدمة العامة. فبين مختارٍ يطلب 20 دولارا وآخر 50، تضيع الحقيقة بين غياب الرقابة وابتكار الأعذار: “الحبر غالٍ، الورق ارتفع، النقل مكلف”، لتصبح هوية المواطن نفسها خاضعة لتسعيرة مزاجية، لا يقرّها قانون، ولا تنصفها ظروف. هكذا تتحول المعاملة الرسمية إلى مزاد علني على كرامة الناس، يدفع فيه المواطن الثمن مرتين: مرة من جيبه، ومرة من صمته.
المعاملة بالليرة اعلى من الفرش!
وحرصا على دقة ما ننقله للرأي العام من جهة، والمسؤولين من جهة اخرى، قامت “الديار” بجولة ميدانية على عددٍ من المخاتير في مناطق مختلفة، من الرميل وساسين وبرج حمود وصولاً إلى البقاع الأوسط وتحديداً زحلة. النتيجة كانت صادمة: لا تسعيرة موحدة ولا حتى تقريبية.
على المستوى العملي، تبرر المختارة ر. ع في بيروت رفع الأجر بارتفاع تكلفة لوازم الإجراءات الرسمية، في حين يضيف المختار ج. أ على المعاملة بدلا عن “الاعمال الادارية” كما يسميها، فيما يصرح ثالث بوضوح: “الدولة مش دافعة، وأنا بعيش من هالشغلة”.
لكن المفاجأة الأكبر كانت خلال وجود فريق “الديار” في مكتب أحد المخاتير في الأشرفية، حيث دخل مواطن لاستلام ورقة رسمية، فوضع على الطاولة عشرة دولارات، ما إن رأت المختارة المبلغ حتى انتفضت قائلة: “شو عشرة دولارات؟ صارت خمسة عشر! هات هات بعد خمسة دولارات”.
ولا يفوتنا ان ننوه الى ان المشهد الأكثر غرابة: إذا كانت النفوس ضمن منطقة بيروت، يتراوح السعر بين 15 و20 $، في حين يأخذ بعض المخاتير نحو 500 ألف ليرة لبنانية على ورقة لطلب اخراج قيد، مراعاة للظروف المعيشية الصعبة للمواطنين.
الا ان الطامة الكبرى تظهر عندما تكون النفوس خارج العاصمة: إذ ترتفع الكلفة إلى ما بين 40 و50 دولاراً، ويصل ما يتقاضاه بعض المخاتير إلى خمسة ملايين ليرة لبنانية لإخراج قيد واحد فقط.
في جميع الأحوال، جولة “الديار” لم تكشف تفاوتاً بسيطاً في الأسعار، بل سوقاً موازية للخدمات الرسمية، تُسعّر فيها هوية المواطن بالدولار، وتُحدد قيمتها وفق عنوان سكنه لا وفق القانون.
التسعيرة فوق القانون والضمير
مما لا شك فيه، ان هذه الوقائع التي رصدتها “الديار” لا يمكن اعتبارها حالات فردية، بل نتيجة مباشرة لغياب الدولة وأجهزتها الرقابية. فوزارة الداخلية التي تُصدر التعرفات الرسمية لم تعد تمارس رقابتها الفعلية، فيما القائمقاميات والبلديات تلتزم الصمت. وقد تحولت مكاتب المخاتير فعليا إلى جزر مالية مستقلة، اذ يضع كل مختار تسعيرته الخاصة، دون أي رادع أو محاسبة. والمفارقة أن المواطنين أنفسهم، بدافع الحاجة أو الخوف من التأخير، باتوا يتقبلون هذه المخالفات وكأنها أمر طبيعي، في عملية تطبيع صامت مع الاستغلال اليومي.
وبناء على ذلك، تتحول المعاملة الرسمية إلى سلعة في سوق مفتوح على الفوضى، وتصبح الهوية، التي يفترض أن توحّد اللبنانيين ، رمزاً لتباين جديد: اختلاف في الكلفة وفي العدالة وفي الاحترام. لكن خلف هذه المبررات تختبئ حقيقة أوضح: لا رقابة فعلية، ولا من يسأل عن السعر الفعلي الذي يدفعه المواطن. فالمختار، الذي يُفترض أنه ممثل بيئته وخدمتها، بات في كثير من الأحيان الحلقة الأولى في حلقة الابتزاز البيروقراطي.
البيروقراطية المقنعة تلتهم
ثلث رواتب اللبنانيين
ومن هذا المنطلق، تقول مصادر سياسية مطلعة لـ “الديار”: “حين تُقارن كلفة هذه المعاملات بدخل المواطن العادي، تتضح الفجوة الصارخة. فالعامل الذي يتقاضى 200 دولار شهرياً، يدفع ما يعادل 30% من راتبه لاستخراج إخراج قيد واحد، ناهيك عن النقل والطوابع ومصاريف إضافية قد تضاعف المبلغ”.
ويضيف “إذا احتاج المواطن أكثر من معاملة واحدة – كإخراج قيد فردي او عائلي، سجل عدلي – فإن مجموع ما يدفعه قد يصل إلى 60% من دخله الشهري، لإنجاز أوراق لا تُغنيه ولا تُطعمه، بل هي فقط لإثبات وجوده القانوني أمام الدولة. هنا يتحول ما يُفترض أنه “خدمة عامة” إلى عبء اقتصادي يومي، وبدلاً من أن يكون المختار صلة وصل بين الناس والإدارة، يصبح بوابة يُدفع عبرها ثمن الوصول إلى حق بسيط”.
المحاسبة شكلية!
وتشدد المصادر على ان “القوانين اللبنانية تنظّم عمل المختار بوضوح: هو موظف منتخب من أبناء منطقته، يتقاضى أجره وفق تعرفة محددة من وزارة الداخلية، وأي زيادة غير قانونية تعتبر مخالفة. لكن في الميدان القانون مجمّد والالتزام به اختياري. لا توجد رقابة فعلية من القائمقاميات أو البلديات، وغالباً ما تُترك الأمور “للتفاهم المحلي”. حتى عندما تُرفع شكاوى، ينتهي الأمر بتسوية ودّية، وكأن الدولة تخشى مواجهة من انتخبهم الناس”.
والنتيجة؟ تجيب المصادر تشريعات موجودة بلا تطبيق، ومواطنون محكومون بـ “تسعيرة عرفية” فرضتها الظروف لا النصوص. المختار، الذي يُفترض أن يكون متنفس الناس وصوتهم في وجه البيروقراطية، صار هو البيروقراطية ذاتها، يمسك بالختم ويحتكر الخدمة، فيما القانون يراقب بصمت”.
وتؤكد المصادر: “في المدينة، تُنجز المعاملات بسرعة لكن بكلفة أعلى، لان المختار يتعامل مع مئات المواطنين يومياً، ويعتبر أن “السوق” هو الذي يحدد السعر.
أما في القرى فالعلاقة أكثر شخصية، لكن المفارقة أن بعض المخاتير في الريف يفرضون أسعاراً أعلى، بحجة ندرة الطوابع أو صعوبة الوصول إلى الدوائر الرسمية، بينما في بعض الأقضية قد يختلف السعر من بلدة لأخرى، تبعاً لمزاج المختار نفسه، وكأن كل مختار يُصدر “تعرفة خاصة به””.
وتضيف المصادر: “من هنا، تعكس هذه الفروقات غياب الدولة كمُنظّم، وتكشف واقعاً مُرّاً: المواطن في لبنان لا يُعامل كمواطن أمام الإدارة، بل كـ “زبون” يتحدد ثمن معاملته بمكان سكنه واسم مختاره. وبين العاصمة والضواحي تتغير الأرقام لا المبادئ: الربح من الخدمة العامة أصبح عرفاً، والسكوت عنه سياسة”.
بين غياب الدولة وتطبيع الاستغلال
في الخلاصة، ما يجري اليوم في ملف المعاملات الشخصية ليس مجرد تفاوت في الأسعار، بل هو صورة مصغّرة عن انهيار مفهوم الدولة في حياة الناس اليومية. فحين يصبح ثمن الهوية رهناً بمزاج المختار، وحين تُترك القوانين حبراً على ورق، يتحوّل المواطن من صاحب حق إلى زبونٍ في طابور طويل من المساومات.
الدولة، بتقصيرها، سلّمت مفاتيح الخدمة العامة لمن يفترض أنهم ممثلوها في الأحياء والقرى، فاختلط الواجب بالمنفعة، وتحوّل المختار من رمزٍ للثقة والاحترام، إلى حارسٍ على بابٍ غير رسمي للدولة، يقرر متى يُفتح ومقابل كم.
أما المواطن، فقد تعلّم الصمت، لأنه بات يدرك أن الاعتراض مكلف، وأن القانون الذي يفترض أن يحميه هو الغائب الأكبر. هذه الظاهرة ليست مجرد مسألة إدارية، بل جرح في العلاقة بين المواطن ودولته. فحين يدفع اللبناني ثمن توقيع أو طابع أكثر مما يحتمل، لا يخسر مالاً فقط، بل يخسر إحساسه بالعدالة والانتماء.
ويبقى السؤال مفتوحاً: من يجرؤ أولاً على محاسبة من يبيع هوية الناس؟