مفارقة “سلطة دمشق” المقلوبة: بين تهديد الخارج ووصم الداخل

في مسرح الحرب السورية المُعقد لم تعد الخطوط الفاصلة بين الوطني والخائن، الموحد والمنفصل، تحددها مبادئ ثابتة، بل أصبحت أدوات متغيرة في يد من يملك القوة والخطاب. لكن المفارقة الصارخة التي أثارها تصريح رئيس سلطة الأمر الواقع في دمشق أبو محمد الجولاني، عبر وسيلة إعلامية تركية، تكشف عن تناقض جوهري في بنية السلطة نفسها، حيث يتحول “الرئيس” إلى وسيط يهدد شعبه بقوة خارجية، بينما يحرمهم من نفس الحق في طلب الحماية عندما يكونون تحت تهديده هم أنفسهم.
تهديد المواطن بالخارج – منطق الوكالة والتبعية
عندما يعلن الجولاني،عبر منصة تركية، أن تركيا قد “تتحرك عسكرياً” ضد قسد إذا لم تستجب لمطالب حكومته، فهو لا يصدر تهديداً عسكرياً فحسب، بل يرسم ملامح علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم. هنا، يتحول الجولاني من ممثل لسيادة الدولة إلى “وسيط” أو “وكيل” يستعير قوة دولة أخرى (تركيا) لفرض هيمنته على جزء من أراضي البلاد وشعبها.
· الخطاب موجه بطريقتين: خارجياً للقوى الدولية وتركيا بأنه الحليف الموثوق الذي يمكنه إدارة الملف. داخلياً للمواطنين في مناطق قسد: “أنتم رهائن بيدي، وأنا على استعداد لاستدعاء قوة خارجية لقتلكم إذا لم تخضعوا لي”. هذه آلية قمعية تستخدم التهديد الخارجي كأداة للضغط الداخلي، متناسية أن واجب أي حكومة شرعية هو حماية مواطنيها من أي عدوان خارجي، وليس التلويح به.
وصم طالب الحماية – منطق الإقصاء والتجريم
في الجانب المقابل تقف محافظة السويداء، التي طالبت سابقاً بـ”حماية دولية” في مواجهة ما اعتبرته جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي مارستها مؤسسات النظام السوري وأجهزته الأمنية التي يترأسها الجولاني نفسه. الرد على هذا الطلب لم يكن بالنقاش أو الإنكار، بل كان بوصمهم فوراً بـ”الانفصاليين” و”الخونة”.
هذه الآلية تهدف إلى:
1. تجريم الضحية: تحويل الضحية التي تطلب النجاة من القمع إلى مجرم بخيانة الوطن.
2. احتكار مفهوم الوطنية: فقط الخضوع الكامل للسلطة هو الوطنية ، أما أي محاولة للبحث عن ملاذ من ظلم هذه السلطة فهي خيانة.
3. إسقاط الشرعية: حرمان أي صوت معارض من شرعيته الأخلاقية والسياسية بمنعه حتى من حق الدفاع عن النفس.
المفارقة الجوهرية: ازدواجية المعيار وسلطة التسمية القلب النابض لهذه المفارقة هو الازدواجية المطلقة في تطبيق المفاهيم والمعايير.
· مَن هو “الخائن” حقاً؟ من ينقل الخلاف الداخلي إلى منصة دولية ويستعد لاستدعاء جيش أجنبي لضرب أبناء بلده، أم من يطلب حماية دولية لإنقاذ نفسه من الموت والقمع؟
· مَن هو “المنفصل”؟ من يحكم منطقة بسلطة أمر واقع مدعومة من قوى إقليمية ( تركيا ) على رأسهم ويتهدد منطقة أخرى عبر قوى إقليمية حليفته التي هي (تركيا)، أم من يطالب بالحفاظ على كيانه المجتمعي من التهجير والاستبداد؟
الجولاني، بتهديده عبر تركيا، يمارس شكلاً من أشكال “الانفصال العملي” عن مبدأ السيادة الوطنية، حيث يصبح ولاؤه لاستمرارية سلطته وليس لسلامة أراضي البلاد أو شعبها. بينما يرفض منح الآخرين حق “الانفصال الافتراضي” عن ظلمه حتى لو كان هدفهم البقاء على قيد الحياة.
إنهيار الدولة وتفكك مفهومها
هذه المفارقة ليست مجرد تناقض في خطاب سياسي، بل هي عرض لمرحلة تفكك الدولة الوطنية وتحولها إلى كيانات أمر واقع متعددة. لم يعد “الرئيس” ممثلاً للدولة، بل أصبح زعيماً لميليشيا أو كيان مسلح يتعامل مع الداخل والخارج بلغة القوة والمساومات، ويستخدم مصطلحات مثل “الوطنية” و”الخيانة” كأسلحة في حربه لتكريس سلطته، لا كقيم وطنية راسخة.
النتيجة هي فضاء سياسي مقلوب، حيث يحق للسلطة أن تهدد بشريك خارجي، ولكن لا يحق للشعب أن يطلب حماية خارجية. حيث يُستدعى الجيش التركي كـ”ورقة تهديد” مقبولة، بينما يُعتبر طلب الحماية الدولية “خيانة عظمى”. في هذا المشهد، لم يعد السؤال “من هو الخائن؟” بل أصبح السؤال: “كيف بقي من يعتبر نفسه رئيساً، وهو يهدد مواطنيه بسلاح دولة أخرى؟”. والإجابة تكمن في أننا لم نعد أمام دولة، بل أمام مرآة مشوهة يعكس عليها كل تناقضات الحرب.