مجتمع

أهالي القرى الأمامية: هاتوا دولة وانزعوا حتى السكاكين!

فراس خليفة - الاخبار

لم يكن أهل المنطقة الجنوبية الحدودية بحاجة إلى شواهد إضافية على أطماع العدو في أرضهم. لكن تخلّي الدولة عن تحمُّل مسؤولياتها تجاههم يزيد الأوضاع الإنسانية سوءاً، وهو أمرٌ سبق أن خَبِرُوه طيلة سنوات الاحتلال. وبينما يدرك أهل البلدات الحدودية فداحة الخسارة في الممتلكات والعمران والأرواح، إلا أنّهم، مع استمرار الاحتلال والاعتداءات الإسرائيلية، يعلنون رفضهم حتّى التفكير في احتلال أو السيطرة ولو على شبر من أرضنا تحت أيّ مسمّى كان، على ما جاء في بيان لتجمُّع أبناء القرى الجنوبية الحدودية الذي أُعلن عن انطلاقته أخيراً

تعيق المُسيَّرات والمحلّقات عودة مظاهر الحياة إلى كفركلا، لكنّها لا تمنع صلاة إمام البلدة من الوصول إلى «أبواب السماء». على الأرض، وطيلة الأشهر الماضية، كان السيد عباس فضل الله «يحمل الرسالة» مع أهل بلدته. من بين ركام المنازل التي دمَّرها الاحتلال، كان يدعوهم للتمسّك بالأرض وبقضيتهم المحقّة، ويسأل عن الدولة التي تخلَّت عن مسؤولياتها. يقول رجل الدين الذي عاش كل حياته في كفركلا: «حرِصْنا على إقامة صلوات العيد في الشارع وأحيَيْنا مناسبة عاشوراء في ظروف صعبة وشدّدنا على معانيها كرفض الظلم والمقاومة والنهوض بالواقع. هذا ضروري، لكنه غير كافٍ من دون مقوّمات حقيقية للعودة والبقاء».

في الأسابيع الماضية رفعت قوات الاحتلال من وتيرة انتهاكاتها وتضييقها على حركة الناس في المنطقة الحدودية. أخيراً توغّل جنود العدو لمسافة 600 متر داخل البلدة وقاموا بنسف جزء من منزل استُهدف سابقاً، يقال إن صاحبه كان يتردّد عليه لسقاية الأشجار المحيطة به.

يدرك الناس في كفركلا حجم الخسارة في العمران ومصادر العيش. يصعب عليهم القول إن البلدة التي عرفوها قبل تحرير الـ2000 وبعده انتهت. لم يبق في البلدة حالياً إلا 6 عائلات تقيم بشكل دائم، بينما يتفقّد آخرون أملاكهم وأطلال منازلهم من وقت لآخر قبل أن يعودوا إلى أماكن نزوحهم. يخشى السيد عباس من تبعات تأخر عودة الناس في حال طال أمد النزوح: «ما نراه في كفركلا هو نكبة حقيقية أو سمِّها تغريبة، ومن خلال بلدتنا أرى صورة لبنان كلّه في زمن تغيير الخرائط».

برأي الرجل، فإن العدو الذي يفرض واقعاً أمنياً واحتلالاً غير مباشر على مساحة تتجاوز النقاط المحتلة على طول الحدود، لا يعفي السلطة السياسية من تحمل مسؤولياتها تجاه الناس، وفي حمايتهم من الاعتداءات الإسرائيلية أولاً، وفي تأمين احتياجاتهم والتعويض عليهم. يسأل: «تطلع الدولة شو بيمنعها؟

انا أريد أن أسكن في قريتي لماذا لا أستطيع؟». أما عن مسألة «حصر السلاح بيد الدولة»، فيوجزها الرجل الذي عاش تجربة الأسر في معتقل في الخيام بين عامي 1998 و2000: «أنا كابن الجنوب لم يكن انتمائي يوماً إلا إلى هذا الوطن. أريد دولة قوية ومسؤولة، وأن احتفظ بكل عناصر قوتي بما فيها المقاومة». برأي السيد عباس، «منطق الأمور يقول: فلنمنع الاعتداءات والاحتلال والمخاطر، ولا مانع بعدها من أن تحتكر الدولة السلاح، ومستعد إنزع حتى السكاكين من بيتي»!

باقون هنا
في 21 آب الماضي، أغارت مُسيَّرة معادية على أحد البيوت الجاهزة في مارون الراس. في اليوم التالي كان حسين علوية (71 عاماً) يعاين بقايا البيت الجاهز الذي قدّمه له أحد تلامذته قبل 5 أشهر كبديل مؤقّت عن بيته المدمَّر. مع ذلك يُصرّ الرجل على زيارة قريته يومياً.

يريد أن يبقى قريباً من ركام بيته وأرضه. «كنت مبسوط لمجرّد انو عم شوف باب الصالون اللي بقي واقف بالدمار، وكنت عم إسقي الوردات والعريشة اللي طلّعتها من تحت الركام وصارت عرايش».

لكن الأهم من ذلك، بالنسبة إلى الرجل، هو معنى وجوده هناك، في القرية التي عاش فيها كل حياته ولم يغادرها في أيام الاحتلال الإسرائيلي وشغل لسنوات طويلة موقع مدير مدرستها الرسمية: «وجودي في الأشهر الماضية في الضيعة كان عاملاً مشجّعاً للأهالي ليأتوا ويتفقدوا منازلهم. يريد الإسرائيلي أن يلغي كل مظاهر الحياة من هناك. لكن طالما هناك شريان ينبض فيّ، سيبقى يرفد مارون الراس بنبض الحياة».

ثمّة شعور عام بالإحباط من سلوك السلطة السياسية تجاه أبناء المنطقة الحدودية

لا يُخفي علوية حزنه على البيت التراثي الذي يعود بناؤه إلى عام 1937 ويشكّل قيمة معمارية تكاد تكون نادرة في تلك المنطقة: «كان بيتاً لأهل مارون ولكل الأصحاب. كل أهل البلدة فاتوا عليه وزعلوا عليه لأنه بيت جامع لكل الناس وحامل للذكريات». في هذا البيت، ترك علوية قصاصاته وكتاباته عن مارون الراس ومذكّراته الخاصة، والتي كان بصدد جمعها في كتاب يوماً ما. «للأسف راحو مع البيت اللي راح».
يحفظ علوية تاريخ قريته جيداً وما تختزنه من عادات وتقاليد وقيم، ومدى ارتباطها الوثيق بقرى الجليل الفلسطيني. لكنه لم يكن يتخيل يوماً أنه سيكون شاهداً على الفصل الأكثر قساوة في تاريخ البلدة التي تغيّرت معالمها واستحالت بمعظمها كتلاً من الركام.

الرجل الذي اعتُقل في الخيام عام 1991 مع زوجته وطفلته البالغة من العمر 3 أشهر آنذاك، يرى أنّ ما يحصل اليوم في المنطقة الحدودية «خطير جداً»، إذ «غير مسموح للناس تعمّر وترجع وتتحرك إلا بإذن اللجنة الخماسية أي إسرائيل». يضيف: «ما في إعمار وما في تعويضات. طيب ما في التفاتة للناس اللي تهجرت واللي بحاجة لمسكن ومأوى وملبس وتعليم؟».

ثمّة شعور عام بالإحباط من سلوك السلطة السياسية تجاه أبناء المنطقة الجنوبية الحدودية. لكنّ كثيرين، وحسين علوية واحد منهم، يقولون إن أهل الجنوب يعرفون كيف يستعيدون أرضهم ويعيدون إعمارها «مهما كلّف الأمر». يؤكد الأستاذ العارف بتاريخ بلدته أن أهل جبل عامل هم أكثر الناس ارتباطاً بهذا الوطن وتاريخهم يشهد على تضحياتهم ومواقفهم: «ليس لنا بديل عن هذ الوطن ولن نتخلى عنه لكن لن نسمح أن تُمَسَّ كرامتنا طالما نحن أحياء»!

عائدون
ثمّة قناعة عند كثير من أبناء القرى الجنوبية الحدودية بأن العودة مسألة حتمية وإن كانت لا تبدو قريبة بالنظر إلى مسار الأحداث والتطورات المفتوحة على احتمالات التصعيد مجدداً.

يقول عصام الصالح، ابن بلدة الضهيرة الحدودية ومدير مدرسة رامية الرسمية: «لا توجد حياة إطلاقاً في الضهيرة المدمّرة كلياً، والتي لا يزال أهلها نازحين وبعضهم في مراكز إيواء في صور». مع ذلك، فإن «الناس هم مَن سيصنعون مقاومتهم، ولن يقبلوا بفرض أي مشاريع تهجير أو إفراغ للمنطقة من سكانها».

رغم أن نسبة الدمار في كفرحمام (حاصبيا) لا تتجاوز الـ 40% من عدد بيوتها (نسبة كبيرة لكنها تبقى أقل من قرى أخرى مدمّرة بشكل شبه كامل)، فإن عودة الناس إليها كانت محدودة. «هناك شحٌّ كبير في المساعدات والتقديمات الاجتماعية، والأضرار كبيرة في البنى التحتية»، على ما يقول نائب رئيس بلدية كفرحمام زياد طه. لكنّ العامل الأهم برأيه هو الأمان المفقود: «كيف بتقنع الناس تروح ترجع تزرع كرومها المحروقة في بلدة يعتاش أغلب أهلها المقيمين فيها على الزراعة من دون وضع أمني مستقر؟».

وبينما يشدد مهندس العمارة والناشط في الشأن العام طارق مزرعاني على مفهوم العودة الشاملة والمتزامنة لأبناء القرى الحدودية، وهي مسألة لا يراها حاصلة في وقت قريب، فإن هاجس «الأمان» يفرض نفسه على حسن بركات، ابن قرية ربّ ثلاثين، وعلى كل الأهالي، إذ «كيف برجع والدرون فوق راسي كل الوقت؟».

وبركات الذي تعرّض وعائلته لخسائر مادية كبيرة جداً بعد تدمير المطعم الذي كان يديره في عديسة وبيوت العائلة، يبدي حماسة لـ«التأسيس من الصفر»، عندما تتوفر الظروف المناسبة في المنطقة التي يُظهِر تعلّقاً كبيراً بها: «نرفض ترك أرضنا لأي مشاريع عدوانية وتوسعية.

نحن أصحاب حق في وجه الباطل وكل ازدهار المنطقة الحدودية بعد تحرير الجنوب كان بفضل المقاومة». أما محمد رمال الذي وُلد وعاش في عديسة سنوات طويلة متنقّلاً بينها وبين الاغتراب، فيتوق إلى اللحظة التي يرجع فيها إلى قريته بعد سنتين من النزوح. ويقول: «بالقدر الذي تبدو فيه الأمور معقّدة، ينتابني شعور أن شيئاً ما قد يحصل فجأة. في كل الأحوال العودة الفعلية والدائمة تحتاج إلى اتفاق سياسي كبير وتحمّل الدولة لمسؤولياتها تجاه مواطنيها».

■ «تجمُّع أبناء البلدات الحدودية» خطوة أولى لرفع الصوت
كانوا هم ثلاثة رجال حول طاولة في المقهى الذي افتُتِح قبل سنة عند أطراف النبطية. لاحقاً انضمَّ إليهم اثنان آخران. مضت سنتان تقريباً على وجودهم خارج قراهم وبلداتهم الجنوبية الحدودية. بالنسبة إليهم، لم تنتهِ الحرب.

هي قائمة ومتواصلة بالاغتيالات والاعتداءات اليومية فضلاً عن تداعيات النزوح. يعزُّ على هؤلاء إشاعة انطباع عام بأنّ «دورة الحياة» عادت الى طبيعتها. يسألون إذا ما كان ذلك أمراً عادياً فعلاً أو أنه إنكار للواقع. فقط 10% من المقيمين قبل الحرب في البلدات الحدودية الجنوبية عادوا إلى بلداتهم بشكل دائم. بلدات تتحوّل ليلاً إلى «مدن أشباح، مع انعدام الأمن ومقوّمات الحياة». وحتى إشعار آخر، فإنَّ معظم السكان في قرى «الحافة» ممنوعون من العودة وإعادة الإعمار وحتى وضع بيوت جاهزة مؤقتة.

يتحدّث الرجال عن الحاضر المُثقَل بتداعيات الحرب، عن مخطَّطات العدو للتمدُّد إلى مساحات إضافية خارج النقاط المحتلة ومشاريع ما يُسمى بـ«المنطقة العازلة الاقتصادية». يقولون، على سبيل المزاح، إن «برج ترامب» سيُشيَّد بدلاً من منزل أحدهم عند الحدود. لم يكن أهل المناطق الحدودية بحاجة إلى شواهد إضافية على أطماع العدو في أرضهم، وهم الذين يعرفونه جيداً.

لكن تخلّي الدولة عن تحمّل مسؤولياتها هو ما يزيد الأوضاع سوءاً، وهذا ما خَبِرُوه أيضاً طيلة سنوات الاحتلال. «وضْعُنا الآن أصعب مما كان عليه حتى خلال الحرب الموسّعة ولا سيّما أن الجمعيات والمنظمات الإغاثية جمّدت مساعداتها بنسبة كبيرة».

في بيان الانطلاقة قبل أسابيع، أكّد المؤسِّسون أن «تجمُّع أبناء البلدات الجنوبية الحدودية» ليس له أي انتماء سياسي. يعرف هؤلاء أن كل شيء يبدأ بالسياسة وينتهي بالسياسة، وأن منع إعادة الإعمار شأن سياسي قبل أي شيء آخر. يوضحون أنّ التجمع ليس منصّة رديفة لأي فريق سياسي، بل تداعى لتشكيله أهالي وفاعليات من القرى الحدودية، وهدفه «إنساني اجتماعي بحت». في المقهى كانوا هم ثلاثة رجال، من حولا وعديسة ورب ثلاثين، ولاحقاً شاركهم الحديث رجلٌ من كفرحمام وآخر من الضهيرة. وكان بينهم مَن يقول: «بَعد زمن سيسألنا أولادنا وأحفادنا ماذا فعلتم للجنوب في لحظة تاريخية كهذه؟».

فرصة… وخريطة طريق
بدأت القصَّة أولاً بجملة كتبها المهندس طارق مزرعاني على موقع «فايسبوك»، سأل فيها عن إمكانية فعل شيء ما بالنسبة إلى أبناء المناطق الحدودية الجنوبية بالتحديد. سريعاً بدأت الاستجابة والتفاعل مع الفكرة من قبل الناشطين والأهالي ومن خلال مجموعات القرى والبلدات. يبعث وجود شخصية كمزرعاني على الثقة بالنسبة إلى أهل المنطقة. مهندس العمارة والناشط في الشأن العام لم يهن عليه ما قاله مواطن من بلدته: «إنتوا المثقفين دوركن تكتبوا أدب وشعر؟ شو بفيد هالشي؟».

تخلّي الدولة عن تحمّل مسؤولياتها هو ما يزيد الأوضاع سوءاً

مزرعاني الذي يتمتع بخبرة عملية وميدانية في مجال مسح الأضرار منذ حرب تموز، يملك رصيداً كبيراً من العلاقات مع عائلات المنطقة، أراد توظيفه في مشروع مطلبي يعود بالفائدة على الناس. «من البداية قلنا إننا نريد أن نسلك طريقاً إيجابياً. بدأنا زيارات للجهات المعنية مثل مجلس الجنوب وجهاد البناء، كما سنطرح اقتراحات عملية وقانونية ومن خلال مجلس النواب. وبالتوازي نريد أن نضغط شعبياً وإعلامياً ولكن بشكل متصاعد ومدروس».

مشروع يرى فيه محمد رمال، ابن بلدة العديسة، خطوة ضرورية لرفع الصوت على الأقل: «هيدا التجمع أنا بشوفو فرصة». برأي حسن بركات، ابن قرية رب ثلاثين، كان لا بد من إطار معبّر لإيصال صوت أبناء المناطق الحدودية: «الناس ضايعة وما عارفة شو بدها تعمل». في السياق ذاته، يرى عصام الصالح، ابن بلدة الضهيرة الحدودية ومدير مدرسة رامية الرسمية، أن «الأمل معقود على التجمع ليكون حاضنة جامعة لأبناء القرى».

أول مطالب التجمع هو إعلان المنطقة الجنوبية الحدودية منطقة منكوبة. أمر بديهي كان يُفترض أن يحصل منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار والعودة التي لم تكتمل.

بعد ذلك تأتي سلسلة مطالب، منها ما هو وطني سيادي كإعادة الأمن والاستقرار وانسحاب العدو وضمان العودة الآمنة للأهالي، ومنها ما يتعلق بمقوّمات العودة وسبل العيش كالبدء بدفع التعويضات للمتضررين، واستكمال إزالة الأنقاض وإعادة بناء البنى التحتية والمباني والمرافق العامة. ويؤكد القيّمون على المبادرة أنهم سيعملون على الحفاظ على التجمع (يضم ممثلين عن 35 قرية) حتى بعد انتهاء الحرب وعودة الناس الكاملة.

هذه الاستمرارية تتطلّبها قواسم تاريخية مشتركة وصلات وثيقة بين أهالي هذه القرى في أقضية مرجعيون وحاصبيا وبنت جبيل وصور، وغالبية هذه القرى لحقت بها أضرار جسيمة منذ بدء جبهة الإسناد قبل سنتين. «نفس الهواء والأرض والزراعات والمياه والبنى التحتية وسوق تجاري متصل وحياة مشتركة». أهل المنطقة يعرفون جيداً أن كل قرية ترفد أخرى بحاجات وقطاعات محدّدة.

«قبل الحرب كان ابن حولا مثلاً يجيب فروج من عديسة، وابن عديسة بحاجة لعمال وأطباء حولا». وكما التبادل التجاري، كذلك في الثقافة والتراث حيث هناك لجان متخصّصة، ستعمل على إيلاء أهمية كبيرة للحفاظ على التراث العاملي الذي لحقت بشقّه المادي أضرار وخسائر كبيرة بفعل الحرب المتواصلة منذ قرابة سنتين.

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى