منوعات

من الدستور إلى السياسة: حصرية السلاح تفجر أزمة الحُكم

بقلم د. هشام الأعور

جلسة مجلس الوزراء الأخيرة لم تكن مجرد اجتماع إداري عادي، بل محطة كشفت عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي اللبناني. فانسحاب الوزراء الشيعة الخمسة من الجلسة، اعتراضًا على إدراج بند خطة الجيش لما يُسمى “حصر السلاح”، لم يُسقط فقط النقاش في لحظته، بل ضرب في الأساس ميثاقية الحكومة وشرعية أي قرار قد يخرج عنها.

الميثاقية في لبنان ليست تفصيلًا شكليًا ولا ترفًا سياسيًا، بل هي شرط دستوري وجودي. فمقدمة الدستور نصّت بوضوح على أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وهو ما يجعل أي سلطة تنفيذية فاقدة للمشروعية إذا تجاهلت مكوّنًا طائفيًا أساسيًا. من هنا، فإن غياب الوزراء الشيعة لا يُقرأ كمقاطعة عابرة، بل كإشارة دستورية قاطعة إلى أنّ الحكومة في تلك اللحظة تحولت إلى حكومة مبتورة، قراراتها منزوعة الصفة الشرعية قبل أن تكون موضع خلاف سياسي.

الخطير أنّ المسألة لم تكن محصورة في إطار إداري أو إجراء داخلي، بل ارتبطت ببند شديد الحساسية يلامس صميم المعادلة الوطنية: مسألة السلاح والمقاومة. فإصرار بعض القوى على طرح هذا الملف في مجلس الوزراء، وفي توقيت إقليمي ودولي بالغ التعقيد، أوحى بوجود محاولة متعمدة لتوريط السلطة التنفيذية في مواجهة مع شريك وازن في الداخل. هذا الإصرار لا يمكن عزله عن الضغوط الأميركية المتواصلة لفرض أجندة تصب في مصلحة العدو الإسرائيلي، خصوصًا أن ما طُرح يتقاطع مع ما يُعرف بالورقة الأميركية المعدّة في واشنطن لفرض شروط جديدة على لبنان.

في المقابل، جاء الانسحاب كموقف سياسي–وطني يهدف إلى سحب الشرعية من مسار اعتُبر خطيرًا على السلم الأهلي. فالمشاركة في النقاش كانت ستمنح غطاءً شرعيًا لبند يهدد توازن الداخل، فيما المقاطعة كشفت الجلسة من غطائها الميثاقي ووضعت الجميع أمام حقيقة أن لبنان لا يُدار بمنطق الغلبة بل بمنطق الشراكة. بهذا المعنى، كان الانسحاب فعل مسؤولية يقي البلاد من منزلق داخلي، لا خطوة تعطيلية كما قد يحاول البعض تصويرها.

الأزمة لا تتوقف عند حدود الميثاقية والشرعية، بل تتعداها إلى موقع الجيش اللبناني ودوره. فالجيش في الوعي الوطني يشكّل المؤسسة الجامعة، الضامنة للاستقرار الداخلي، والممسكة بخيوط الوحدة الوطنية. غير أنّ تكليفه بمهمة خلافية كهذه يضعه في موقع الطرف داخل معركة سياسية، وهو ما قد يهدد صورته ووظيفته في آن. وهنا تكمن خطورة إدخال المؤسسة العسكرية في قلب التجاذبات، في لحظة تحتاج فيها البلاد إلى جيش موحّد ومحصّن في مواجهة التحديات الأمنية المتصاعدة، خصوصًا الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الحدود.

من زاوية دستورية، ما جرى يعيد التأكيد على أنّ الميثاقية ليست مجرد عرف سياسي، بل قاعدة ملزمة لها قوة القانون. كل حكومة تفقد أحد مكوّناتها الأساسية تتحوّل إلى كيان منقوص، فاقد للأهلية في ممارسة السلطة. ومن زاوية سياسية، أثبتت التجربة أنّ أي محاولة لتجاوز الشراكة وفرض أجندات خارجية عبر المؤسسات الدستورية محكومة بالفشل، لأن التوازن اللبناني لا يقوم إلا على قاعدة التوافق والعيش المشترك.

المشهد إذًا يتجاوز حادثة انسحاب محدّدة، ليكشف مأزقًا أعمق يتعلق بقدرة النظام السياسي اللبناني على الاستمرار في ظل محاولات فرض وقائع لا تنسجم مع بنيته الميثاقية. فكلما جرى تجاوز هذا المبدأ، عاد البلد إلى حافة الانقسام، فيما حماية الميثاقية تبقى الضمانة الوحيدة لاستمرار الدولة واستقرارها. وعليه، فإن ما شهدته الجلسة الأخيرة لا يمكن اعتباره حدثًا عابرًا، بل محطة فارقة تضع الحكومة أمام سؤال مصيري: هل تستطيع تجاوز مأزقها والعودة إلى منطق الشراكة، أم أنّ البلاد تتجه نحو أزمة حكم مفتوحة على احتمالات بالغة الخطورة؟

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى