مجتمع
أخر الأخبار

باسكال مسعود: رأيت الانفجار يقذف ابنتي وهذا ما قالته لي الممرضة قبل استشهادها

يكاد قلب الأم يتوقّف عن الخفقان لمجرّد رؤية ولدها يتعثّر بحجرة صغيرة في طريقه ويكاد الدم يتجمّد في عروقها إن لمحت قطرة دم واحدة تنزل منه، ولكن الفنانة التشكيلية اللبنانية باسكال مسعود التي كانت تستعدّ في الرابع من آب لمغادرة مستشفى الروم في منطقة الأشرفية بعد تعافيها من عملية جراحية خضعت لها، لم تكن تعرف أنها في ذلك اليوم المشؤوم ستأكل الوجبة الأخيرة من يد الممرضة لينا أبو حمدان التي ستستشهد بعد لحظات إثر أقوى انفجار ستشهده مدينة بيروت في تاريخها، ولم تكن تتوقع أن ابنتها الطبيبة دايزي مسعود التي كانت معها في الغرفة نفسها ستطير أمام عينيها أمتاراً لتسقط جريحةً مغطاةً بدمائها.

تتناول الوجبة الأخيرة من يد الممرضة الشهيد لينا أبو حمدان
تتناول الوجبة الأخيرة من يد الممرضة الشهيد لينا أبو حمدان

“انها السادسة وست دقائق من بعد ظهر الرابع من آب 2020. كنت أبتسم وأفكّر أنني سأخرج من المستشفى بعد قليل. لحظةٌ وتهدّم كل شيء من حولي. في الغرفة غيمةٌ بيضاء وقوّة دفعٍ هائلة تجعلني أستدير في سريري، لأرى ابنتي وخطيبها يطيران في الغرفة ويقعان أرضاً أمام عيني. هما طبيبان يعملان في مستشفى الروم، الذي كنت قد دخلته لاجراء عملية بسيطة. شعرت في لحظتها أنني متّ. قلت في نفسي لا بدّ أن هذه هي النهاية”، هكذا تستعيد مسعود اللحظات الأولى لانفجار مرفأ بيروت.

وتروي: ” السقف انهار والباب الذي وقع أمامه خطيب ابنتي خُلِع من مكانه. الزجاج كله تطاير ووجدت نفسي مغطاةً بقطع الزجاج ولم يبقَ شيء في مكانه. لم أشعر بنفسي سوى أنهض من سرير المستشفى من دون حتى أن أنتبه الى أن المصل كان مازال موصولاً بيدي. هرعت نحو ابنتي فوجدتها تنزف بغزارة من رأسها وكان هناك جروح على وجهها أما خطيبها فعانى من جروح بالغة في يده اليمين ولكننا استجمعنا قوّتنا وعرفنا تلقائياً أننا يجب أن نخرج بسرعة من الغرفة لان جرح دايزي كان عميقاً ولم نتمكّن من إيقاف النزيف عند الضغط عليه”.
وتتابع: “الفوضى كانت في كل مكان. الأبواب كانت مخلّعة والركام يملأ الممرّات ولكن لحسن الحظ أنني كنت في غرفة قريبة من مخرج الطوارئ، فسارعنا الى الخروج منه للبحث عن مستشفى آخر يستطيع أن يسعفنا”.

صورة لباسكال مسعود مع ابنتها وخطيب ابنتها بعد تعافيهم
صورة لباسكال مسعود مع ابنتها وخطيب ابنتها بعد تعافيهم

وتضيف: “عندما خرجنا كانت الصدمة. عدد الجرحى الذي رأيناه كان مهولاً.
لم أرَ وجهاً واحداً لا تغطّيه الدماء. المكان كان أشبه بساحة حرب. لم أستوعب كل هذا الجنون لم أفهم ما حصل. عرفت فقط أننا في حالة نكبة وأن الوصول الى الإسعافات اللازمة سيكون صعباً خصوصاً أن دايزي فقدت وعيها أكثر من مرة بسبب غزارة النزيف وبسبب كل الدماء التي كانت تفقدها بسرعة. وهنا بدأنا مشوار الجلجلة بالانتقال من مستشفى الى آخر بحثاً عن واحد قادر على استقبالنا الى أن وصلنا أخيراً الى مستشفى Belle Vue في منطقة المنصورية، حيث كان هناك عشرات الجرحى الذين كانت تتم مداواتهم داخل غرف الطوارئ وفي الممرات وأمام المدخل. فلم يعد هناك لا أسرّة ولا غرف تساع الجميع. حجم الكارثة كان يفوق قدرة استيعاب أي مستشفى”.
وتروي بتأثّر: “قاموا بتقطيب ابنتي من دون بنج. لم يكن هناك وقت لفعل أي شيء وكان عليهم التصرّف بسرعة، هكذا راح خطيبها يسكب الماء على رأسها فيما قام أحد الأطباء مشكوراً بتقطيبها بسرعة لوقف النزيف”.
وتضيف: “الحمد لله كُتِبَت لنا النجاة فدايزي تماثلت للشفاء وخطيبها خضع لاحقاً لجراحة في يده ولجلسات إعادة تأهيل. ولكن عندما انتهى كل شيء شعرت فجأة بإحباط كبير وبالكآبة الغامرة لأن الشعور المسيطر علي كان شعوري بالعجز والشلل. كنت أودّ لو أنني تمكّنت من فعل شيء ومن إنقاذ أشخاص أكثر”.

حاولت ترجمة مشاعرها ازاء انفجار المرفأ في لوحاتها
حاولت ترجمة مشاعرها ازاء انفجار المرفأ في لوحاتها

وعن علاقتها بالممرضة لينا أبو حمدان التي توفّت في الانفجار تقول دامعةً: “كانت حنونةً جداً وتساعد الجميع من كلّ قلبها. أذكر جيّداً الكلمات الأخيرة التي سمعتها منها. فقبل الانفجار بدقائق كانت معي في الغرفة وقد قدّمت لي وجبة الأكل وقالت لي : “لا تحزني لأنك لم تغادري المستشفى بعد. لا تستعجلي. افرحي واستمتعي بوجبتك الآن ولا تقلقي عما سيحصل لاحقاً”. وبعدما خرجت من غرفتي بدقائق قليلة دوّى الانفجار الذي دمّر كل شيء وعرفنا لاحقاً أنها كانت من بين الممرضات اللواتي استشهدن في المستشفى. رحمها الله”.

اليوم تحاول باسكال مسعود أن تعود تدريجياً الى حياتها الطبيعية والى الفن التشكيلي الذي يشكّل شغفها الأكبر في الحياة منذ سنوات، فهي أمينة صندوق نقابة الفنانين التشكيليين اللبنانيين وعضو في ملتقى الألوان الفني وفي جمعية فناني الرسم والنحت في لبنان.

وتروي أنها تحاول ترجمة تجربة الانفجار المُرّة في لوحاتها والتي كان من بينها لوحة “بيروت تحت الضباب” التي توثّق بالصورة والألوان لمشهد الدمار والموت الذي عرفته المدينة.

شموع للضحايا
شموع للضحايا

وبالتعاون مع الفنان التشكيلي اللبناني عماد عبد الساتر تدعم مسعود حملة “بحصة بتسند خابية” وهي المبادرة التي أطلقها عبد الساتر بهدف دعم الفنانين اللبنانيين الذين فقدوا مشاغلهم وخسروا محترفاتهم ومعارضهم ولوحاتهم ومنحوتاتهم، حيث “نحاول أن نجمع التبرّعات لمساندتهم كما يقوم الفنانون أنفسهم بتبادل مواد الرسم والمساعدات للتعبير عن تضامنهم مع بعضهم البعض”.
وتفصح عن نيتها التحضير لمعرض لوحات تهديه لمدينة بيروت ولناسها الموجوعين، معربةً عن أملها بقدرة هذه المدينة على النهوض من كبوتها بهمّة شبابها وفنّانيها ليبقى الحلم ممكناً رغم كل المآسي.

رنا أسطيح

رنا أسطيح

صحافية لبنانية، كتبت في شؤون الفن والمجتمع والثقافة في عدد من الصحف اللبنانية والعربية. قدّمت برامج إذاعية وقامت بإعداد العديد من البرامج الفنية والاجتماعية في أكثر من محطة تلفزيونية.  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى