مجتمع

أين ذهب جحش الدّولة؟

في معظم دول العالم المتحضرة والناميّة، تجد النقل العام سمة من سمات مدنه وبلداته، وجزءًا لا يتجزّأ من حياة وثقافة مواطنية وسكّانه وسيّاحه، لكن لبنان الذي كان رائدًا في القرن الماضي عبر شبكة مواصلات منظّمة وعصريّة عمادها القطار والتريمواي، وبعد توقّفها بسبب الحرب والنعرات السّياسيّة، حاول لبنان أن يعود إلى قطاع النقل العام من باب الحافلات، فأنشأ لذلك شبكة النّقل المشترك، عبر عشرات الحافلات ذات اللونين الأبيض والأزرق، والتي وسمها اللبنانيّون بـ “جحش الدّولة”.

اليوم وبعد كل هذا الذل الذي نشاهده على محطّات الوقود وارتفاع سعر صفيحة البنزين، يبرز السّؤال عن البديل الذي من المفترض أن تؤمنه الدولة، ألا وهو جحش الدولة، فبعد عمله لفترات طويلة اختفى جحش الدولة عن مساراته المعهودة، فأين ذهب؟.

بين عامي 1996 و1997  تم استخدام مئتي حافلة كاروسّا من تشيكيا، وكانوا يعانون من مواصفة غير ملائمة مع طقس وطرقات لبنان، حيث كانت مصمّمة بحسب حرارة وطقس بلد المنشأ حيث درجة الحرارة 20 تحت الصفر، أمّا في لبنان فمعدّل الحرارة 20 فوق الصفر وهنا وقعت هذه الحافلات في مشاكل ميكانيكيّة كبيرة تعطل على أثرها 60 حافلة أول الانطلاقة.

خلال هذه الانطلاقة شرّعت الدولة  لمؤسسة خاصّة استقدام حافلات نقل بأعداد أكبر وبدأت العمل على نفس الخطوط، حينها ضربوا هذه الخطة العالمية التي صمّمها خبراء فرنسيّون، وفق ما أشار رئيس نقابة عمّال وموظفي مصلحة السكك الحديديّة والنقل المشترك ريمون فلفلة لـ “أحوال”.

ولفت فلفة إلى أنّه في العام 2000 قدّمت الإمارات العربيّة المتّحدة 40 حافلة كهبة للبنان أُعطي للنقل المشترك 37 منها من نوع ميتسوبيتشي، وفي العام 2004 بقي مئة حافلة حيث عملت المؤسسة بخبراتها، وبالاستعانة بخبراء ألمان على تعديل البنية الميكانيكية لهذه الحافلات لتأمين سيرها على الشّبكة وبقيت حتى عام 2009.

وأكّد فلفلة أنّه في العام 2010 تمّ شراء 20 حافلة وبقيت كل المصلحة تعمل على 57 حافلة، حتى أتى انفجار 4 آب المشؤوم ودمّرعنابر المصلحة التي تحوي قطع الغيار للحافلات وكل لوازمها وكراجات الصّيانة، كما أنّ عددًا من هذه الحافلات تدمّر أيضًا، ولهذا أصبحت المصلحة عاجزة عن تسيير الحافلات المتبقّية.

كلفة إعادة تصليح هذه الأضرار تصل إلى مليون وثمانمئة وخمسة عشر ألف دولار أميريكي وفق مسح ودراسة أجرتها شركة خطيب وعلمي، وطالبنا بتأمين هذا المبلغ، ولغاية الآن لم نُعطَ هذه الاعتمادات حتى نعيد ترميم ما دمّره الانفجار، وفق ما أشار فلفلة.

في العام 2004 صدر قرار بضرورة إعادة إحياء النقل المشترك عبر شراء 250 حافلة إلّا أنّ هذا القرار بقي حبرًا على ورق، وعام 2012 جرت المطالبة بإحياء هذا القرار بتاريخ 23-3-2012، عبر تأمين الاعتمادات اللّازمة لشرائها، لكن حتى يومنا هذا لم تؤمّن هذه الاعتمادات.

يُذكر أنّه ونتيجة التفاوض مع البنك الدولي صدر قانون حمل الرقم 135، قضى بإبرام اتفاقيّة قرض واتفاقية تنفيذ بين الجمهورية اللبنانية والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، بقيمة مئتين وخمسة وتسعين مليون دولار لتنفيذ مشروع خطة نقل شاملة، على أن يقوم مجلس الإنماء والإعمار بتنفيذ هذا المشروع بالتنسيق مع مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، ويتضمن المشروع  Bus Rapid System، وحافلات ومسالك خاصّة، لكن حتّى الآن كل شيء متوقّف لأجل غير مسمّى.

من الواضح أن السّياسات الحكومية المتعاقبة لم تعر اهتمامًا لقطاع النّقل العام كما العديد من القطاعات العامّة التي سعت هذه السّياسات إلى ضربها وتدميرها بهدف الخصخصة، والذي يحصل اليوم مع النقل المشترك مشابه لما حصل، إذ يطمح البعض إلى خصخصة القطاع، وبهذا تكون الدولة استقالت من كامل دورها، أمّا عودة جحش الدولة إلى مساراته وفقًا للخطط والاستراتيجيّات المرسومة، فبحاجة إلى توافق سياسي بين الجميع، وإلّا سيبقى مصير جحش الدّولة كمصير الحكومة التي لم تبصر النّور حتّى تاريخه.

منير قبلان

باحث قانوني. إعلامي ومعد برامج وتقارير سياسيّة واجتماعية. يحمل شهادة الماجيستير في الحقوق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى