اقتصاد

«بالون» الاستثمارات في سوريا: السعودية تُحاذر الانفتاح الكامل

حسين إبراهيم - الأخبار

يكاد لا يمرّ يوم من دون أن تعلن السعودية عن مشاريع إغاثية أو استثمارية في سوريا، بعضها بمليارات الدولارات، وهو ما ينعكس غزلاً على وسائل التواصل الاجتماعي بين ناشطين سعوديين وآخرين سوريين، ما يعني أنّ تلك العلاقة تستجيب لرغبة شعبية على الجانبين. ومع ذلك، لم يلمس السوري العادي بعد تغييراً مهمّاً في الوضع الاقتصادي للبلد الذي لا يزال يعيش أزمة اقتصادية خانقة، تدفع كثيراً من السوريين إلى الاستمرار في اللجوء إلى الدول المجاورة.

لعلّ من أهمّ السياسات التي أحدث فيها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تغييراً جوهرياً في ما كان يتّبعه أسلافه من حكّام المملكة، كانت سياسة استخدام الذراع المالية الطويلة، سواء في جانب المساعدات أو في جانب شراء النفوذ، بحيث تراجعت الفئة الأولى بشكل كبير، بينما تقدّمت الثانية إلى أبعد الحدود. وثمّة مثالان يعكسان هذه السياسة تماماً: الأول هو مصر التي أغلق ابن سلمان صنبور المساعدات إليها، والثاني أميركا التي تضخّمت الاستثمارات السعودية فيها وشملت أكثر من تريليون دولار، فقط في أثناء زيارة الرئيس، دونالد ترامب، إليها في أيار الماضي.

وعليه، فإنّ ما يُعلن عنه كل يوم من مساعدات أو استثمارات سعودية في سوريا، ومنها ما ذُكر مؤخّراً عن مشروع لإعادة إعمار دمشق وبناء أبراج فيها، إمّا أنه ليس مجانياً وإمّا أنه ليس حقيقياً؛ والأغلب أنه من الفئة الثانية. فالمملكة تعجز عن إكمال مشاريع طموحة على أرضها كان ابن سلمان طرحها في «رؤية 2030» التي يقترب استحقاقها، من دون أن تظهر معالم تلك المشاريع.

لا بل على العكس، جرى تقليص بعضها إلى حدّ التقزيم، مثل مشروع «ذا لاين» في مدينة «نيوم» الذي كان يفترض أن يشمل مبنى متواصلاً بطول 170 كيلومتر وارتفاع نصف كيلومتر على طول ساحل البحر الأحمر، ليؤوي 1.5 مليون شخص، بحلول 2030 ، إلا أنّ المملكة أعادت تقييمه ليؤوي 300 ألف شخص فقط؛ وحتى هذا، لم تبصر إرهاصاته النور بعد. وفي المقابل، لم يحصل السوريون حتى الآن سوى على بعض الإغاثة الغذائية والطبية، وهي أيضاً مساعدات ذات أهداف سياسية، إلا أنها لا تغيّر كثيراً في وضعهم.

حتى الآن تبدي الرياض حذراً في الانفتاح سياسياً بشكل علني على السلطة الجديدة في دمشق؛ ولذلك، تقتصر الزيارات بين الجانبين على المسؤولين الاقتصاديين والإغاثيين، رغم أنّ المملكة تسعى إلى بناء مركز نفوذ سياسي كبير في هذا البلد، بل ومنافسة قوى أخرى فرضت نفوذها بالقوة فيه، مثل إسرائيل وتركيا، أو بالمال مثل الإمارات، أو قطر التي تمثّل حال خاصة بسبب الأدوار التي أدّتها منذ بداية الحرب السورية، وتحالفها مع تركيا.

العلاقة الناشئة بين الدولتين لا تزال بعيدة جدّاً عن أن تكون مستقرّة

مع ذلك، يبدو مثيراً أنّ السياسة السعودية تجاه سوريا تمرّ عبر السلطة الجديدة المتمثّلة بالرئيس الانتقالي، أحمد الشرع، الذي لا تتساهل المملكة مع أمثاله على سلوكيّاتهم حتى لو كانت من الماضي، في حين يجري تقديم هذا الأخير بعد إعادة تأهيله، شكلاً ومضموناً، ليظهر بمظهر رجل الدولة العصري، ذي الرؤية الاقتصادية الثاقبة. وكدلالة على ما تقدّم، تحدّث «المجلس الوطني للإنقاذ» السعودي المعارض، قبل أيام قليلة، عن اعتقال عدد من السعوديين الذين شاركوا في الحرب السورية، بعد أن صدّقوا الوعد بـ«العفو» الذي أعلنه رئيس جهاز أمن الدولة في المملكة، عبد العزيز الهويريني، قبل مدّة، حيث جرى اعتقال الجميع عند وصولهم إلى المطار ولا يزالون في السجون قيد التحقيق.

وثمّة أحاديث تتردّد على وسائل التواصل الاجتماعي عن أنّ هؤلاء تعرّضوا لخديعة عندما لقوا تشجيعاً على العودة، من الداعية عبد الله المحيسني الذي فرّ من المملكة قبل سنوات ليقيم في سوريا، وهو أحد المقرّبين من الشرع ودائم الإشادة به سواء في خطبه التي لا تزال إلى اليوم يلقيها في مساجد إدلب، أو في منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، لا بل إنّ البعض يعتبره أحد ملهمي الرئيس الانتقالي.

ورغم الغزل المتبادل، والحديث السوري المفرط عن الإخوة وإنسانية الإجراءات السعودية المتّخذة، غير أنّ العلاقة الناشئة بين الدولتين، لا تزال بعيدة جدّاً عن أن تكون مستقرّة. وهذا ما يفسّر الحذر السعودي في مقاربة العلاقة علناً من الناحية السياسية ومحاولة إسباغ الطابع الإنساني والأخوي عليها. ولن يكون غريباً، والحال هذه، أن تغيّر المملكة سياستها مرة أخرى، وتدير ظهرها لسوريا، مثلما فعلت مع مصر ولبنان، إذا بدا لها أنّ تحقيق الأهداف التي وضعتها لنفسها ليس يسيراً، سواء بسبب المنافسات الإقليمية، أو بسبب تحوّلات داخلية في سوريا على خلفية الأحداث المتسارعة هناك، والتي تتمثّل في الاعتداءات الإسرائيلية أو المطالبات الانفصالية، أو حتى الصراع بين التشكيلات الإسلامية للسلطة نفسها، ما ظهر منها وما بطن.

لكنّ الهجمة الإغاثية السعودية لا يمكن فصلها عن السياق الذي أطلقه ابن سلمان نفسه في أثناء اللقاء الثلاثي مع دونالد ترامب والشرع في أثناء زيارة الرئيس الأميركي إلى السعودية، وأساسه تطبيع سوريا العلاقات مع إسرائيل، وهو سياق لا يكفي بالنسبة إلى الأخيرة التي تطمح إلى تحقيق ما يتجاوز ذلك بكثير، وإن كانت مستمرّة في الانخراط في مفاوضات مع دمشق بهدف التوصّل إلى ترتيبات، لا يبدو أنّ تل أبيب مقتنعة بأنّ الشرع يمكن أن يوفّرها لها.

على أيّ حال، يبدو أكيداً أنّ المشروع السعودي في سوريا يواجه عقبات، أكبرها المطامع الإسرائيلية، لكنها لا تقتصر عليها؛ فالشرع نفسه لا يستطيع التحلّل من ارتباطاته مع تركيا وقطر اللتين لا تتلاقى أهدافهما مع أهداف المملكة. ولذا، فإنّ أمام الرياض مسافة طويلة قبل أن تتمكّن من ترجمة تحرّكاتها في بلد مهمّ كسوريا، إلى مكاسب سياسية. وقد يكفي القول هنا إنها لم تحقّق تقدّماً ملحوظاً في الوساطة بين لبنان وسوريا في حلّ الملفات المطروحة بينهما حالياً، ومن ضمنها الحدود والمعتقلون، وهي وساطة تقع في صلب مساعي السعودية لتوسيع نفوذها وتثبيته. وإلى حين حصول تقدّم في هذه المجالات، ستظلّ الاستثمارات السعودية في سوريا بلا ترجمة على الأرض.

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى