العازف الأخير جنوباً: تراث “المجوز والدبكة” يتقلص كما المساحات الخضراء
حين يتوقف عازفا المجوز محمد ملحم وأسعد سعد، عن العزف يكون هذا الفنّ التراثي، كغيره، قد ولّى الى غير رجعة، اليوم هما الوحيديْن المتقنين لهذه المهنة – الفن على قيد الحياة في الجنوب، بعدهما تكون الأجيال الجديدة الشابّة قد انسلخت نهائياً عن هذا “التراث”.
لا يزال محمد ملحم (40عاماً) يذكّر كبار السنّ في بلدته مجدل سلم (مرجعيون) والبلدات المجاورة بماضيهم الجميل وبأعراس الضيعة و”الدبكة” في الساحات العامة. كما لا يزال بعض كبار السنّ يستدعون ملحم الى سهراتهم القليلة، هذه الأيام، لاحياء “الدبكة” في احدى ساحات البلدة الصغيرة، ولساعات قليلة فقط، قبل خلودهم الى النوم باكراً.
“لا طاقة لنا حتى على السهر، لكننا نشتاق الى سماع المجوز والمشاركة في “الدبكة” الشعبية، التي لا طعم لها بدون “المجوز” الذي كاد أن ينقرض بوجود الآلات الموسيقية الحديثة” يقول أحمد ياسين (70 سنة). ويشرح أن “صوت المجوز يذكّرنا بأوقات الأفراح التي كنا نعيشها” متمنياً أن “تبقى هذه العادة موجودة، ويتعلمها الشباب الصاعد، على الأقلّ ليحافظ على تراث أجداده الذي لا بديل عنه اليوم”.
يحمل محمد ملحم المجوز كلّ صباح، متوجّهاً الى عمله في رعي الماشية، وهو عمل كاد أن ينقرض أيضاً، مصطحباً معه أغنامه التي يزيد عددها على المائة، سارحاً معها في الحقول القليلة المتبقية، مطلقاً نفخاته الطويلة في “المجوز” فتتحوّل الى موسيقى جميلة.
يقول ملحم “تعلّمت عزف المجوز، وأنا في سنّ 13 سنة، وكنت من الوحيدين من أبناء جيلي في بلدتي الذي أتقن “دقّ المجوز”، فقد تأثّرت بوالدي الذي كان عازفاً للمجوز معروفاً في جيله، لكنّني تعلّمت ذلك بنفسي بعد محاولات عدّة، وبعد أن صنعت مجوزي الصغير بيدي، من قشّ القمح القاسي”.
ثلاث سنوات كانت كافية لملحم ليصبح متقناً هذه الهواية، والتي أصبحت مهنة جديدة، مع مهنة رعي الماشية، حتى فاقت شهرته شهرة آخرين كثر أكبر منه سنّاً، والذين تركوا هذه العادة بعد أن طعنوا في السنّ، وأصبح مطلوباً للأعراس القروية، فيعزف فترات طويلة مقابل بدل مالي، حتى ذاع صيته في أماكن بعيدة، من بعلبك، الى مرج الزهور وقرى وبلدات الجنوب كافّة.
ويعلق على ذلك بقوله “عملي يزدهر في البلدات التي اعتاد أهلها على عادات البدو، كما حال بلدات أم التوت والقليّلة والاسماعيلية وغيرها، هناك تقام الأعراس القروية التراثية التي يتصل فيها الليل بالنهار، وتُعقد حلقات الدبكة على المجوز و”المنجيرة” ويعتمر فيها الكبار والشباب الحطّة والعقال”.
ويقول ملحم بحسرة “الآن اذا توقّفت أنا وزميل لي من بلدة حاريص عن العزف، ستندثر عادة عزف المجوز في الجنوب كلّه، فلا يوجد من يعزف المجوز والمنجيرة غيرنا، لأنّ الجيل الجديد لا يروق له ذلك كثيراً، رغم أن البعض حاول التعلّم لكنه استصعب اتقانه والتفنّن به، الأمر يحتاج الى نفس طويل ولمدّة طويلة، وتحريك الأصابع مع العزف بشكل متناغم مع الموسيقى أمر صعب ودقيق”.
ويبيّن أنّ “معظم الأعراس أصبحت تقام في المنتزهات والمطاعم ويفضّل الجيل الجديد الدبكة على أنغام “DJ” ولكن رغم ذلك يستدعونني أحياناً للمشاركة في العزف مع الموسيقى الحديثة ولأوقات قليلة، فقد كانت السهرات كلها سابقاً تعتمد على المجوز أما الآن فلا”.
يستطيع ملحم العزف على “المجوز” و”المنجيرة” و”اليارغول”، وهي آلات تشبه بعضها بعضاً، لكن أصواتها تختلف قليلاً، وهي تصنع من القصب الصلب يدوياً. المجوز: مؤلّف من قصبتين ملتصقتين ومتساويتين في الطول، احداهما مثقوب بعدّة ثقاب.
“المنجيرة”: تتكون من قصبة واحدة مثقوبة.
“اليارغول”: يتكون من قصبتين لكن احداهما أطول من الأخرى، وتتميّز بصوتها الناعم “الحنون” وهي تُصنف من التراث الفلسطيني.
يعتبر ملحم أن “العزف على المجوز واليارغول هو الأصعب والأكثر عذوبةً وطراوةً، أما المنجيرة فهناك من يستطيع غيرنا استخدامها لكن عزفها لا شعبية له بعكس المجوز واليارغول الذي كنّا نسمع صوته قديماً على الاذاعة الفلسطينية عندما تبثّ الأغاني الوطنية”. ويضيف “أنا صنعت المجوز الخاص بي، من قصب النهر، وألصقت القصبتين بشمع النحل، وأحتفظ به منذ 14 سنة، وعندي مجوز آخر يزيد عمره على أربعين سنة”، ويردف “منذ انطلاقتي كانت موسيقى الأعراس والحفلات هنا مقتصرة على دقّ المجوز، الى أن دخل الطبل مشاركاً المجوز في العزف، لكن اليوم لا مكان لهما، فقد كان عازف المجوز صاحب مهنة منتجة، فكان والدي مثلاً يحصل على 5 ليرات بدل العزف في الأعراس، وهذا كان ثمنا محرزاً جداً في حينها. وقد كان المجوز الآلة الوحيدة والأساسية لاحياء الأعراس، فنستمرّ في استخدامه طوال السهرة الى حين انتهاء العرس، لذلك كانوا يدفعون لنا أجرة كبيرة، أما اليوم فلا يحتاجون الينا الاّ لوقت قصير وفي بعض الأعراس فقط، لأن الموسيقى الحديثة هي التي تستهوي الشباب، لذلك فالأجرة تكون قليلة، وأحياناً كثيرة بدون أجرة”.
ويلفت أن “الفقراء وميسوري الحال هم الذين باتوا يستدعوننا لعزف المجوز، لأنهم يقيمون الأعراس في منازلهم ويحاولون التخفيف قدر المستطاع من مصاريف الزواج والفرح”.
يطالب ملحم “الجيل الشاب والمسؤولين بضرورة تعلّم عزف المجوز، كونه من تراث الوطن، ويذكّرنا بالماضي الجميل، اضافة الى أنه يعلّم الناس على الروح الجماعية والحماسية، كون المشاركين في الدبكة هم الذين يطلقون الأغاني على أصوات المجوز، بعكس الدبكة على الموسيقى الحديثة”. ويلفت الى أن “معظم الذين أتقنوا عزف المجوز هم من رعاة الماشية، لأنّ رعاة الماشية يسرحون في الحقول والبراري ويأنسون صوت المجوز لجمع ماشيتهم حولهم لكن ما يحصل الآن أن رعاة الماشية تدنّى عددهم كثيراً، وعدد كبير من البلدات لا يوجد فيها من يهتمّ بتربية الماشية، حتى أن أبناء بلدتي الذين كان العدد الأكبر منهم يهتمون بتربية الماشية، تركوا هذه المهنة التي لم يبق من أصحابها هنا الاّ نحو عشرة أشخاص”.
ويبين أنّ “القرى والبلدات اليوم اجتاحتها الأبنية السكنية من كلّ مكان، ولم يعد هناك أمكنة طبيعية خالية من السكان، لذلك تدنّت جداً أماكن رعي الماشية، فبتنا نمشي مسافات طويلة بحثاً عن الحقول المباحة لرعي ماشيتنا، فكيف لا يتدنّى عدد المهتمين برعي الماشية، وكيف سيبقى للمجوز صدى لأصحابه ليتفنّنوا في العزف عليه”.
يبيّن ملحم أن “بعض قرى البدو في الجنوب، لا يزالون يفضّلون الدبكة على المجوز في أفراحهم وأعراسهم، وأذكر أنه منذ 14 سنة طلب مني في احدى قرى قضاء صور الحدودية، أن أعزف في احد أعراس القرية، فذهبت قبل يوم العرس، وبدأت الدبكة عصر هذا اليوم واستمرّت حتى طلوع الفجر، وفي الصباح الباكر استأنف الأهالي العرس، فاضطررت للبقاء حتى المغيب، أي أكثر من 24 ساعة، وأنا أعزف دون انقطاع”.