الانتخابات النيابية المقبلة: هواجس وجودية
بدأت حسابات الانتخابات النيابية المقبلة تتغلغل في اجندات القوى الداخلية.. والدولية. وغالب الظن، ان مساحة هذه الحسابات ستتسع كلما ضاقت المسافة الفاصلة عن موعد إجراء الانتخابات في شهر أيار المقبل.
ومع استعصاء الازمة السياسية على المعالجات الحقيقية، وعجز الشارع عن إحداث تغيير نوعي في التوازنات، صار صندوق الاقتراع هو المكان الوحيد الذي يمكن أن تختلط فيه الأوراق مجددا.
واذا كان البعض يتوقع او يتمنى تأجيل الانتخابات، فإن المزاج العام، المحلي والخارجي، لا يسمح بذلك، وسط تلميحات مبكرة الى ان المجتمع الدولي لن يتساهل مع أي تأجيل وقد يفرض عقوبات قاسية على مكونات السلطة اذا اتخذت مثل هذا القرار.
ويبدو ان الخارج الذي يأس من إمكان تغيير الطبقة السياسية او حتى دفعها الى تعديل سلوكها تحت ضغط الشارع والانهيار، بات يترقب الانتخابات النيابية لكسر هذا الستاتيكو، مراهنا على قوى المجتمع المدني التي يدعمها لإحداث خرق واسع في المنظومة الحاكمة، ومفترضا ان النقمة الشعبية على الطبقة السياسية ستفرز معادلة جديدة في صناديق الاقتراع.
وليس المجتمع الدولي فقط هو الذي يطمح الى استثمار الاستحقاق الانتخابي في اتجاه خدمة اجندته، بل ان الجهات اللبنانية الاساسية تفترض أيضا ان هذا الاستحقاق سيكون فرصة لكل منها لإثبات حقائق جرى تشويهها او طمسها من قبل الخصوم.
وبهذا المعنى، فإن التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل سيسعى الى استعادة الاعتبار المعنوي الذي فقده بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019, وصولا الى التأكيد بأن شعبيته المسيحية لا تزال متماسكة الى حد كبير على رغم كل الحملات التي تعرض لها. ويأمل التيار في أن تعزز النتائج المرتقبة مشروعية باسيل في الترشح الى الانتخابات الرئاسية التي تلي النيابية بعد أشهر قليلة.
اما القوات اللبنانية التي تستعجل الانتخابات وتفضلها مبكرة، فتريد عبرها ان تنتزع الأرجحية التمثيلية من التيار الحر وان تبرهن تاليا بأنها أصبحت الكتلة المسيحية الأكبر والاقوى في مجلس النواب، الامر الذي من شأنه ان يُحصّن ترشيح سمير جعجع الى رئاسة الجمهورية او على الاقل ان يعزز موقعه كناخب قوي يملك حق الفيتو ولا يمكن تجاوز موقفه عند اختيار الرئيس المقبل.
وتجدر الاشارة هنا، الى ان كل المؤشرات تفيد بان المعركة الانتخابية الاكثر دقة والأشد أهمية على مستوى تحديد هوية المجلس الجديد هي تلك التي ستدور في الوسط المسيحي، حيث ترتفع نسبة المستقلين او المحايدين ممن لا ينتمون الى الأحزاب والذين يؤدون دورا اساسيا في ترجيح كفة على أخرى، إضافة إلى أن ما يعرف بمجموعات الحراك تنشط بقوة في هذا الوسط وهي تأمل في ان تكون البديل المقبول عن الحزبين الأساسيين، التيار الحر والقوات اللبنانية.
على الضفة الأخرى، ستشكل الانتخابات مناسبة مفصلية لحزب الله كي يثبت مجددا لأعدائه في الخارج وخصوم الداخل بأنه لا يزال قويا ومتوهجا على رغم ما يتعرض له من حصار وتشويه، وبأن بيئته الشعبية لا تزال تدعمه وتحتضنه من دون أن تخضع الى الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الرامية الى تأليبها على المقاومة.
اما الرئيس نبيه بري فسيحرص أيضا على كسب التحدي المنتظر، حتى يجدد شرعيته الشعبية في الطائفة الشيعية ويؤكد انها لم تتأثر بالاتهامات الموجهة ضده، لاسيما بعدما شاعت تقديرات بأنها تقلصت خلال الفترة الأخيرة. والاهم انه اذا نجح تحالف حزب الله – حركة امل في الحصول على الأكثرية الساحقة داخل الطائفة، فإن بري سيكون عندها مرشحا تلقائيا الى رئاسة مجلس النواب لولاية جديدة.
ولا يقل التحدي الانتخابي حساسية بالنسبة إلى الرئيس سعد الحريري الذي سيخوضه هذه المرة من دون دعم سعودي لا مالي ولا سياسي، ما لم يحصل تحول إيجابي في موقف الرياض حياله. كذلك، يتعدد منافسو الحريري في بيئته، من شقيقه الطامح بهاء الى معارضيه من الشخصيات السنية. وسط هذه الوقائع، سيحاول الحريري ان يبقى متفوقا على خصومه في حجم التمثيل السني، وهو الذي يعرف ان الحصانة الشعبية باتت بوليصة التأمين الوحيدة لضمان رئاسة الحكومة والمستقبل السياسي بعدما تبخرت الأرصدة الأخرى.
والانتخابات ستسمح لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط أيضا باعادة تظهير صورة تمثيله لشريحة واسعة من الدروز، بحيث يكرس مجددا مقعده على طاولة التوازنات والتسويات.
الا ان المحك الأدق هو الذي سيواجه “الحراك النظيف” النابع من الوجع الحقيقي، وليس المتسلق او الانتهازي، إذ سيكون في كل المناطق أمام امتحان لحجمه وشعاراته ومصداقيته وقدرته على استقطاب الناس الغاضبين، من غير أن يكون مرتبطا بسفارة اجنبية او مشروع مشبوه.