العنف ظاهرة عابرة للحدود… قصص ناجيات
تصنيف الآخرين وترتيب إنتماءاتهم وفق سلّم أولويات واهية ومفاضلات شخصانية وعقائد مبهمة وتحليلات غير موضوعية لا ترقى إلى مرتبة علمٍ أو إثبات، نزعةٌ إنسانية متجذّرة تحصر الآخر في خانات ضيّقة وتزجّ به في تعليبات اللون والعرق والهويّة، وإلى ما ذلك من تفاصيل تُخضِع الأفراد والمجتمعات للتمييز المجحف والمضلِّل، وتحول دون معرفتهم بشموليتهم وكلّيتهم وخصوصياتهم، فتصبح بمثابة مبرّرات للتفرقة والإقصاء والإيذاء والإذلال والتنكيل.
تندرج ظاهرة العنف ضدّ المرأة في سياق الممارسات الظالمة والمجحفة والمؤذية بل المدمّرة التي تعجز القوانين المنقوصة – على غرار ما أُقرّ في لبنان – في الحدّ منها وردعها، بل تساهم في تزكيتها لتشمل النساء اللبنانيات كما اللاجئات السوريات والعاملات من مختلف الجنسيّات المقيمات في لبنان. لقد تفاقمت ظاهرة العنف هذه بشكل لافت، وزادت الأعباء المترتبة على الجمعيات المناهضة لأعمال العنف ضدّ المرأة، جرّاء وفود آلاف اللاجئات السوريات إلى لبنان وازدياد أعدادهن بشكل مضطرد نتيجة استعار الحرب في سوريا وتعرّض العديد منهن للعنف على أشكاله.
العنف أشكال وأصناف، والقائمة طويلة …
تعرّف مارلين تبشراني، الإختصاصية الإجتماعية في جمعية “كفى”، العنف بأنّه ظاهرة عالميّة هي عبارة عن سلوك مؤذٍ تجاه الآخرين، وأيّ شخص قد يتعرّض لها في المجتمع حيث تتخطى هذه الظاهرة مسألة الجنسيّة أو العمر أوالطبقة الإجتماعية. ولهذه الظاهرة أشكال مختلفة، كالعنف الجسدي وهو الأكثر إنتشاراً بين النساء، ويكون عادةً مرفقاً بأشكال العنف الآخرى، مثل العنف المعنوي واللفظي الذي يشمل التعرّض للإهانة والشتم، والعنف الجنسيّ كالإغتصاب أو الإجبار على الإجهاض…
وتضيف المرشدة الإجتماعية في منظمة “أبعاد” سوزان زعرت أنّ الحرمان الإقتصادي هو مظهر من مظاهر العنف الذي تتعرّض له النساء أيضاً، ويتمثّل هذا النوع بحرمان المرأة من العمل والمال أو إجبارها على العمل لكي يستفيد الطرف الآخر منها ويستغلّها مادياً. لذلك تهتم الجمعيات المناهضة للعنف ضدّ المرأة والمناصرة لحقوقها، بتمكين النساء الناجيات عبر تقديم تدريبات وورش عمل لتعليم الخياطة أو الرسم، أو تنظيم دورات تعليمية لإتقان لغة جديدة، وذلك بهدف مساعدة النساء المعنّفات على تأمين إستقلالهن المادي وتحسين ظروفهن النفسية والمعنوية. توفر كل هذه الدورات إطاراً متكاملاً هو عبارة عن تطبيق منسَّق لخطة السلامة التّي تقدّمها هذه الجمعيات لكل امرأة، والتي تقضي خصوصاً بتأمين الدعم النفسي والإجتماعي لها وتقديم المساعدة القانونية التي تحتاجها لضمان نجاتها من دورة العنف والترهيب التي تتعرّض لها.
شراكة في المصير وتكافل في الخلاص
انّ عمليّة تمكين النساء لا تجري عبر الدورات وورش العمل فقط، إذ تؤكد كل من سوزان ومارلين، بأنّ النساء الناجيات يلعبن دوراً أساسياً في تمكين ومساعدة بعضهن للبعض الآخر. كما تشيران إلى أنه من المفيد أن تسمتع الناجيات لقصص بعضهن لأنّ ذلك يساعدهن على الشعور بالألفة والتضامن والفهم المتبادل لمشاعرهن، مما يساهم في تعزيز ثقتهن بأنفسهن وعلى تخطي مأساتهن بشكل أسرع وأفضل.
من “الناجحات” في امتحانات تجاوز دورات التعنيف وتجارب الأذى، “محاربات” قاومْنَ ورَبِحْن معركة الحياة الكريمة، فأصبحن يشكّلن مصادر إلهام لنساء أخريات لحثّهنّ على طلب المساعدة ولتخطي المشاكل والصعوبات والآلام.
قصص نجاح … بتصرّف
نور* لاجئة سورية. في عينيها الدامعتين أسىً عميق، وفي صوتها المتهدّج سنوات من الوجع والحزن والعذاب. ” لقد تعرّضت للعنف لفترة طويلة إلى أن قرّرت مواجهة الموضوع، فلجأت الى منظمة “أبعاد” واستطعت أن أتعلّم أشياء جديدة من بينها الخياطة واللغة الإنكليزية التي لطالما أردت أن أتقنها. أنا اليوم قوية وأشعر بالأمان. لم أعد أخاف من زوجي بل أصبح لدي القدرة على مواجهة الصعوبات. أريد أن أستقل وأكمل حياتي مع طفلي، وقد بدأت بتفيذ قراراي هذا عندما إستأجرت منزلاً أقيم فيه مع طفلي وصديقة لي من الجمعية. رحلتي لم تنتهِ هنا. أنا مستعدّة لمواجهة أي شيء وأريد أن أكمل دراستي وأتخصّص بالأدب الإنكليزي. أتمنى من أي امرأة تتعرّض للعنف عدم الإستسلام ومواجهة هذه المشكلة لأننا نستطيع مواجهة أي شيء إذا ما قرّرنا ذلك.”
أمل، لبنانية، تروي قصة مشابهة لقصة نور وإن بأسماء وهويات مختلفة. لا تخوض في التفاصيل الأليمة لكن العناوين العريضة التي تكشفها كافية للدلالة عن مدى الظلم الذي لحق بها.” لقد قاسيتُ طويلاً من العنف الجسدي والجنسي واللفظي الذي كان يمارسهم زوجي بحقّي. رغم ذلك، حاولت أن أصبر على الوجع وساعدته لكي يحافظ على عمله، إلى أن بلغ الموضوع حدّاً فاق قدرتي على التّحمل. تركت المنزل على أمل أن أتلقّى مساعدة من أهلي لكنّهم أصرّوا أن أرجع الى منزل زوجي. لجأتُ الى جمعية “كفى” التّي ساندتني وقدّمت لي مكاناً آمناً لأسكن فيه مع طفلتي. لقد إستطعت أن أحقّق استقلاليتي وأخرج من دائرة العنف التي كنت قد غرقت فيها، بعد أن تعلّمت مهنة التمريض وبدأت العمل بها. لديّ اليوم منزلي الخاص ونجحت بالحصول على قرار بالتفريق والنفقة لإبنتي، كما حصلت على قرار يلزم زوجي بأن يسمح لإبني بزيارتي. انا أقوى من قبل وأسّست حياةً مناسبة لي.”
تحمل مريم الجنسية السورية وقد لازمها العنف كخيالها طوال سنوات زواجها. “كان زوجي مدمناً على الكحول. وكان يمارس عليّ العنف الجسدي والمعنوي والإقتصادي، إلى أن جاء يوم وإكتشفت خيانته لي، ممّا زاد الأمور تعقيداً وتفاقمت المشاكل. تركت المنزل هرباً من العنف لكنّه لم يتوقّف عن أذيّتي. لقد حرمني من رؤية أطفالي لأكثر من ستة أشهر. خلال هذا الوقت، كان العنف يلحق بأطفالي، فزوجي كان يعنّفعهم بشكل متواصل، ممّا دفعني للجوء الى جمعية “كفى” التّي قدّمت لي خطة سلامة تتضمّن خدمات قانونية ونفسية. لقد ساعدوني لكي أفهم ما هي حقوقي وهذا ما ساعدني لأقوم بدوري بتوعية أطفالي. خلال محاولتي الحصول على الطلاق، توفي زوجي بسبب تناوله جرعات كبيرة من الكحول. لكن معاناتي لم تنتهِ: لقد تعمّدت عائلته أن تسبّب لي مزيداً من الأذى إذ تقدّمت بدعوى وصاية بحقّ أولادي. رفضت الوصاية المشتركة مع أعمام أطفالي وقد استحصلت على حكم لصالحي. أنا سعيدة اليوم بوجود أطفالي بقربي، فهذا كل ما يهمّني.”
… وتتعدّد الأسماء والجنسيّات، أمّا الرواية فتتكرّر، واحدة، مشتركة، لا تتبدّل فيها إلا بعض المعالم والتفاصيل، إلّا أنّ هذه الفوارق لا ترقى إلى مستوى الإختلاف العميق، بل تقتصر على كونها تعرّجات ثانوية في مسار قدر مشترك لا يرحم، لا يميّز، لا يفرّق، بل يساوي بين الناس في الظلم والمأساة. أمّا الناس فهم أيضاً لا يرحمون إذ يميّزون ويفرّقون فيظلمون.
*في حال التّعرّض للعنف، يجب تبليغ قوى الأمن مباشرةً واللجوء الى الجمعيات الي تعنى بقضايا مناهضة العنف، عبر مواقع التواصل الإجتماعي أو الخطوط الساخنة التالية:
- قوى الأمن : 1745
- جمعية أبعاد : 81788178
- منظمة كفى: 03018019
- التجمع النسائي الديموقراطي اللبناني: 71500808
- الهيئة اللبنانيّة لمناهضة العنف ضد المرأة : 70518291
*القصص الواردة أعلاه هي قصص نساء ناجيات من العنف تمّ تبديل أسمائهنّ واستخدام أسماء وهميّة حفاظاً على سلامة تلك السيدات وخصوصيتهن.