في ذكرى ميلاده المئة، يبدو “لبنان الكبير” كجمهورية طعِنت في السن وخارت قدراتها السياسية لترسو على حاضر مأزوم من الضعف والعجز والحاجة، فالبلد الذي شهد في مئويته الأولى كل أشكال الاحتلال السياسي الخارجي، يجد نفسه اليوم غير قادر على المضيّ قدمًا من دون مرشدٍ أجنبي يتولى زمام الحكم.
هذا العجز تجلّى في قصر الصنوبر يوم الثلاثاء، حيث حلّق السياسيون على طاولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للاستماع إلى توجيهاته والالتزام بلاءاته وإملاءاته.. فجاد الأخير؛ حتى أنّ سفارة بلاده قدّمت للحاضرين مسودّة عن البيان الوزاري تحت عنوان “أفكار” مستقاة من اللّقاءات مع المسؤولين اللّبنانيين.
تحت تهديد العقوبات، حثّت فرنسا ممثلي الكتل النيابية اللّبنانية من أركان الطبقة السياسية على إجراء الإصلاحات الواجبة وضربت موعدًا نهائيًا لتنفيذها خلال 15 يومًا، واللّافت أنّ الطرح الفرنسي من خلال ورقة المسودّة دخل بدقة في كيفية محاربة الفساد وتطوير الصيغة باتجاه الدولة المدنية وإنشاء مجلس شيوخ وإجراء إصلاحات على اتفاق الطائف، وحل معضلة الكهرباء وهيكلة القطاع العام كما هيكلة مصرف لبنان وإجراء تحقيق جنائي في حساباته.
وكان لافتًا في حديث ماكرون إيجابيته تجاه حزب الله بحيث قال ردًّا على مساءلة النائب سامي الجميّل عن موقف فرنسا من سلاح الحزب: “الأولوية الآن ليست للبحث في السلاح بل للإصلاحات ولا تقحموني في أمور أخرى، وإلا فإنكم تكونون كمن يأخذ بلاده الى الخراب”، وكان في وقت سابق أثناء زيارته قد صرّح أنّ حزب الله قوة سياسية لبنانية، ويمثّل جزءاً من الشعب اللبناني وهناك شراكة اليوم بينه وبين أحزاب عديدة أُخرى”.
وإذ يصف الكاتب والمحلّل السياسي مخائيل عوض مسودّة البيان بصك انتداب فرنسي للبنان بطريقة واضحة وسافرة وأوامرية، يلفت في حديث لـ “أحوال” إلى أنّ ماكرون ورغم إيجابيته بالحديث عن حزب الله إلّا أنّه أكمل حديثه بالقول “إنّني شخص براغماتي وأعرف ماذا أريد وعندما تحين الفرص سنسعى إلى الهدف”، معتبرًا أنّ هذا الكلام خطير وملغوم.
وتوقع عوض أنّه “وبعد أن تُقر القوانين وتُعتمد السياسات وتُشكَل الحكومات بالقياسات والخيارات الفرنسية ويتم تلزيم المرفأ والكهرباء والمصارف والمصرف المركزي للفرنسيين، على الاغلب وقبل أن يُقدّم دولارٌ واحدٌ سيتم وضع موضوع سلاح حزب الله وأقلّه الصواريخ الدقيقة على بساط البحث إلى جانب مسألة ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل “.
إذًا تمارس فرنسا أمومتها مع لبنان، ولكنّها حتما لا تلعب دورًا إنقاذيًا بالمجّان، فلبنان بكلّ عجزه، هو موطئ القدم الوحيد لفرنسا في المنطقة، وفرصتها الأخيرة لمواجهة التمدّد التركي في شرق المتوسط، إضافة إلى ما قد يقدّمه لها حضورُها في لبنان من تعزيز لدورها السياسي بين محوري الصراع في المنطقة .
في هذا الإطار يقول عوض: ” فرنسا تخسر في كل الأمكنة ستحاول التعويض في لبنان، وواضح أنّ لفرنسا حوافز مصلحية بما في ذلك محاولة الاستثمار بانشغال اميركا في انتخاباتها المفصلية وانسحابها من الاقليم في الوقت الراهن”.
ويترافق الأمل الذي تزرعه فرنسا مع الحذر والريبة، خاصة مع وصول المبعوث الأميركي ديفيد شينكر إلى لبنان، بحيث يتوقع البعض أن تجهض أميركا الحلّ عبر اشتراطها استبعاد حزب الله عن أي حكومة جديدة.
يلفت عوض إلى أنّه “في هذه المرحلة الضائعة لا يؤذي أميركا ومن خلفها اسرائيل أن تناور فرنسا في محاولة لملء الفراغ، وعندما تنتهي الانتخابات وتستقر الإدارة الأميركية ستعود فرنسا أداة طيّعة في يد أميركا في البحر المتوسط لا سيما في الساحة اللّبنانية”.
وتتلاقى الخطوة الفرنسية مع المبادرة الأوروبية التي يقودها الطليان في سوريا، ما يشي بأنّ الاتحاد الأوروبي ينسق مبادراته وأنّه يتعامل مع سوريا ولبنان باعتبارهما جغرافيا واحدة واقليم جيو سياسي متصل وواحد. المبادرة الايطالية ازاء سوريا والمبادرة الفرنسية في لبنان تتكاملان في سياق توجه أوروبي لمحاولة إملاء فراغ الانشغال الأميركي بالانتخابات او تأزم أميركا واضطرارها إلى إخلاء الإقليم والمنطقة إلى أجلٍ غير مسمّى.
نُهاد غنّام