لبنان بين إصلاح الطائف والحوار التأسيسي: أزمة العقد السياسي ومخاطر تفكك الكيان
بقلم: د. هشام الأعور

تعود الإشكالية اللبنانية اليوم إلى مستوى يتجاوز السجال السياسي التقليدي حول الأولويات الإصلاحية، لتلامس جوهر الأزمة البنيوية التي يعيشها الكيان منذ سنوات، والتي تفاقمت مع الانهيار الاقتصادي وتداعيات التحولات الإقليمية الأخيرة. فالدعوات المتزايدة إلى الشروع في إصلاحات سياسية، ولا سيما تلك المرتبطة باستكمال تطبيق اتفاق الطائف عبر استحداث مجلس الشيوخ وتفعيل اللامركزية الإدارية، تعبّر عن مقاربة ترى في الدستور الإطار القابل للإنقاذ، وتعتبر أن الخلل الأساسي يكمن في تعطيل النصوص لا في بنيتها. غير أن هذه المقاربة تصطدم بواقع سياسي منقسم، تتراجع فيه القدرة على إنتاج تسويات داخلية جامعة، ما يفتح الباب أمام طرح موازٍ يدعو إلى إعادة ترتيب الأولويات والانتقال أولًا إلى نقاش تأسيسي أعمق.
لقد كشفت التطورات الإقليمية، ولا سيما معركة إسناد غزة وانعكاساتها المباشرة على الداخل اللبناني، حجم التباعد بين اللبنانيين حول قضايا لم تعد قابلة للإدارة بالصيغة السابقة. فالخلاف لم يعد محصورًا في مقاربة ظرفية أو تموضع سياسي مؤقت، بل بات يمسّ تعريف الدولة ووظيفتها ودورها الخارجي، ويطرح أسئلة جوهرية حول السيادة والقرار الوطني والعلاقات مع المحيط. وفي ظل هذا الواقع، برز انقسام حاد بين من يرى في لبنان دولة ينبغي تحييدها عن صراعات المحاور، ومن يعتبره جزءًا من مواجهة إقليمية مفتوحة، بما يجعل خياراته الاستراتيجية متداخلة مع معادلات خارجية تتجاوز الإطار الدستوري.
ويتقاطع هذا الانقسام مع مسألة السلاح خارج إطار الدولة، التي تحوّلت من ملف خلافي إلى عقدة تأسيسية تمسّ جوهر العقد السياسي بين اللبنانيين. فالدولة، من حيث المبدأ الدستوري، تقوم على احتكار السلطة الشرعية للقوة، وأي إخلال بهذا المبدأ ينعكس مباشرة على فعالية المؤسسات وعلى معنى الشراكة الوطنية. وقد أظهرت التجربة أن أي محاولة لإجراء إصلاحات مؤسساتية أو دستورية في ظل هذا الالتباس تبقى عرضة للتعطيل أو التفريغ من مضمونها، لأن الخلاف لا يكون قد حُسم عند مستوى المرجعية السيادية.
وفي هذا السياق، لا يمكن فصل النقاش حول السلاح أو الإصلاح الدستوري عن مسألة حماية لبنان من الانكشاف الأمني والعسكري في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية، التي أثبتت التجربة أنها تستثمر أي ضعف داخلي أو انقسام وطني لتعميق خروقها للسيادة اللبنانية. فغياب رؤية وطنية جامعة للدفاع لا يهدد فقط تماسك الدولة من الداخل، بل يعرّض الكيان برمّته لمخاطر مستمرة، تتجسّد في استباحة الأرض والحدود وتهجير السكان. كما أن النزوح القسري المستمر من القرى الحدودية، وما يرافقه من تعطيل للحياة الاقتصادية والاجتماعية، يطرح تحديًا سياديًا لا يقل خطورة عن التحديات الدستورية ذاتها، إذ إن عودة النازحين إلى قراهم الآمنة تشكّل معيارًا أساسيًا لقدرة الدولة على حماية مواطنيها وأرضها، وعلى تثبيت سيادتها الفعلية لا الشكلية. ومن هنا، فإن أي حوار وطني جاد أو مسار إصلاحي قابل للحياة لا بد أن يتضمن مقاربة واضحة لمسألة الدفاع الوطني، بما يضمن تحصين لبنان في مواجهة الاعتداءات الخارجية، ويمنع تحويل الانقسام الداخلي إلى مدخل دائم لاستباحته.
وفي السياق نفسه، تتصل مسألة السلاح بالخلاف حول العلاقات الخارجية، حيث يعكس غياب سياسة وطنية موحّدة انقسامًا عميقًا حول هوية لبنان وموقعه في الإقليم والعالم. فالسؤال عن العدو والصديق، وعن حدود الانخراط في الصراعات الإقليمية، لم يعد مسألة نظرية أو خطابية، بل بات عاملًا مباشرًا في تهديد الاستقرار الداخلي وتعميق الانقسامات، ما يجعل أي إصلاح دستوري غير محصّن أمام الاهتزازات السياسية والأمنية.
كما أن الجدل حول شكل النظام وقانون الانتخاب لم يعد تقنيًا أو إصلاحيًا بحتًا، بل أصبح انعكاسًا لخوف متبادل بين المكوّنات اللبنانية، ولعجز الدولة عن إنتاج تمثيل سياسي يعكس التحولات الاجتماعية ويؤمّن تداولًا فعليًا للسلطة. فالطائف، الذي افترض انتقالًا تدريجيًا نحو دولة مدنية وإلغاءً سياسيًا للطائفية، اصطدم بواقع أعاد إنتاج الانقسامات بأشكال أكثر حدّة، في ظل مؤسسات ضعيفة وثقة شعبية متآكلة، ما أعاد طرح السؤال حول مستقبل الكيان اللبناني بوصفه كيانًا جامعًا لا مجرد إطار شكلي.
من هنا، يبرز رأي سياسي – دستوري يدعو إلى تأجيل البحث في إصلاحات الطائف قبل الشروع في عقد طاولة حوار وطني شاملة تتناول القضايا الخلافية المصيرية، وفي مقدّمها السلاح، والعلاقات الخارجية، وهوية النظام، ومستقبل الكيان. ولا يُطرح هذا التأجيل بوصفه تعطيلًا أو إنكارًا لأهمية الإصلاحات، بل باعتباره محاولة لتفادي السير بإجراءات دستورية في ظل غياب توافق وطني أساسي يجعل من هذه الإصلاحات عرضة للتحوّل إلى أدوات صراع إضافية بدل أن تكون مدخلًا للاستقرار.
وفق هذا التصوّر، فإن الإصلاحات الدستورية لا يمكن أن تنتج التوافق، بل تحتاج إليه كشرط مسبق لنجاحها. فالحوار الوطني، إذا ما أُنجز بجدّية ومن دون خطوط حمراء مسبقة، يمكن أن يشكّل مساحة لإعادة تعريف الثوابت الوطنية وضبط سقوف الخلاف، بما يسمح بإعادة وصل النص الدستوري بالواقع السياسي والاجتماعي. وعندها فقط، يمكن لاتفاق الطائف، أو لأي صيغة إصلاحية منبثقة عنه أو مطوّرة له، أن يستعيد وظيفته كإطار ناظم للشراكة الوطنية، لا كنص معلّق فوق واقع منقسم.
في المحصلة، لا يعكس الجدل الدائر اليوم تناقضًا بسيطًا بين خيار الإصلاح وخيار الحوار، بل يكشف عن أزمة ثقة عميقة بين اللبنانيين، وعن خوف متبادل من أن يتحوّل أي مسار غير توافقي إلى مدخل لتفكيك ما تبقّى من الكيان. وبين إصلاح مؤجَّل وحوار لم يبدأ بعد، يقف لبنان أمام لحظة حاسمة، يكون فيها التحدي الحقيقي هو القدرة على إنتاج توافق وطني يعيد الاعتبار للدولة كإطار جامع، ويؤسّس لمسار سياسي ودستوري قادر على حماية وحدة الكيان، وصون سيادته، وضمان بقاء لبنان وطنًا قابلًا للحياة في مرحلة إقليمية شديدة الاضطراب.



