عندما يعود الماضي بوجوه جديدة: فخر الدين المعني الثاني وسيناريوهات التفكيك في السويداء
بقلم: د. هشام الأعور

لم تكن التحولات التي يشهدها الجنوب السوري اليوم، ولا سيما في السويداء، معزولة عن سياق طويل من محاولات القوى المحلية عبر القرون لإعادة رسم موقعها ضمن خرائط النفوذ الإقليمي والدولي. فمنذ بدايات العصر العثماني، حين تشكّلت البُنى الأولى لتمييز الجبل عن السهل، ظهر في المنطقة مشروع مبكر للسلطة المحلية بلغ ذروته مع صعود فخر الدين المعني الثاني (1572–1635م)، الذي شكّل نقطة انعطاف تاريخية في فهم العلاقة بين المركز الإمبراطوري والقوة المحلية. هذا الإرث السياسي العميق يظل حاضراً في المشهد المعقّد الذي نراه اليوم، حيث تتقاطع مشاريع العسكرة والتدخل الخارجي مع محاولات المجتمع المحلي حماية توازنه التاريخي.
إن تجربة فخر الدين، التي قامت على قراءة دقيقة للمتغيرات الدولية في شرق المتوسط، تُظهر أن قدرة الجبل على إنتاج مشروع سياسي خاص ليست استثناءً ظرفياً، بل نمطاً متكرراً في تاريخ المنطقة. فقد استطاع الرجل، في زمن تتنازع فيه القوى الأوروبية السيطرة على المتوسط ويواجه فيه العثمانيون إرهاصات ضعفهم الأول، أن يستثمر موقع الجبل وعلاقاته الاجتماعية لبناء سلطة تتجاوز حدود الإدارة التقليدية. امتد نفوذه من ساحل صيدا إلى البقاع والداخل، وحوّل الجبل إلى مركز فاعل في لعبة القوة الإقليمية، قبل أن تُعيد الدولة العثمانية إخضاعه بالقوة، في لحظة شكّلت بداية الصراع بين سلطة محلية تُدرك حدودها، وقوة مركزية تعتبر أي هامش مستقل تهديداً مباشراً لهيبتها.
هذا النموذج القديم يعود اليوم بشكل مغاير في الجنوب السوري، حيث يجد المجتمع الدرزي في السويداء نفسه محاصَراً بين مشاريع متضادة: من جهة محاولات فرض الأمر الواقع من قوى الأمر الواقع في الشمال الشرقي والشمال الغربي، ومن جهة أخرى بروز تشكيلات مسلّحة هجينة تحمل امتدادات أيديولوجية عابرة للحدود، بعضها يستند إلى إرث داعش والفصائل المتشددة، وبعضها يتحرك بغطاء أجهزة أمنية تتعامل مع الجغرافيا الجنوبية باعتبارها ساحة مفتوحة لإعادة توزيع النفوذ. وفي هذا السياق، يصبح استحضار التجربة التاريخية لفخر الدين ليس عملاً رومانسياً، بل قراءة في كيفية تحرك الجبل تاريخياً حين يشعر بأن توازنه الداخلي مهدد.
كما كان فخر الدين يدرك أن قوة الجبل تقوم على وحدته الداخلية وعلى علاقاته العابرة للحدود، يدرك أهالي السويداء اليوم أن المواجهة ليست أمنية فقط، بل سياسية واجتماعية في آن. فالمشروع الذي يتهدد السويداء حالياً—كما بينته التقارير الاستخباراتية التي تحدثت عن تشكيلات مثل “أولي البأس” وعمليات الاقتحام المثيرة للجدل التي تورطت فيها مجموعات محسوبة على الأمن العام بغطاء عناصر ذات ارتباطات داعشية—هو محاولة لتفكيك قدرة الجبل على رسم حدوده الذاتية داخل مشهد سوري متشظٍ، تماماً كما حاولت السلطة المركزية في القرن السابع عشر تقييد قدرة فخر الدين على إدارة مجاله الجغرافي.
لكن الفارق بين الأمس واليوم أن الجبل لم يعد يتحرك داخل فضاء عثماني واسع، بل داخل خرائط إقليمية تحكمها توازنات أعقد بكثير، حيث تتداخل أجندات دولية وإقليمية مع صراعات محلية، وتتقاطع مصالح أجهزة الأمن مع مشاريع فصائل مسلحة، فيما يشعر المجتمع المحلي بأنه آخر خطوط الدفاع عن استقرار الذات. وهذا ما يجعل اللحظة المعاصرة أقرب إلى مرحلة انتقالية شبيهة بتلك التي عاشتها المنطقة في زمن فخر الدين، حين كان كل تحرك سياسي أو عسكري في الجبل ينعكس مباشرة على موازين القوى في الساحل والداخل وجوار الجبل.
ومن هنا تأتي أهمية الربط بين التجربتين: فكما حاول فخر الدين بناء مشروع يحمي استقلالية الجبل من محاولات الطمس السياسي، تحاول السويداء اليوم، في وجه محاولات التفجير والفوضى، صياغة خطاب جامع يحفظ خصوصيتها ويحميها من دخولها في صراع ليس من صُنعها. إن استعادة هذا البعد التاريخي تساعد على فهم أنّ الصراع الدائر اليوم ليس بين جماعات محلية فحسب، بل بين من يسعى لإعادة إنتاج نموذج سلطة مركزية متحكمة بالجبل، ومن يدافع عن مسار ظل جزءاً من هوية المنطقة منذ أربعة قرون.
وهكذا يصبح الربط بين الماضي والحاضر ضرورة تحليلية لفهم أنّ المعركة التي يخوضها الجبل اليوم ضد مشاريع التفكيك ليست سوى امتداد لمسار طويل من الصراع على الذات السياسية للجبل، وأن إرث فخر الدين المعني الثاني لا يزال يخبرنا حتى الآن بأن قوة الجبل تبدأ من وعيه، وأن قدرته على حماية توازنه التاريخي لا تزال حجر الأساس في مواجهة كل ما يستعاد من سيناريوهات التفكيك، مهما تغيّرت وجوهها وأساليبها.



