هندسة الجنوب السوري الجديد: من هامش الى حجر زاوية

كتب هيثم حميدان*
إن الخرائط والبنود الأمنية التي يتم تداولها اليوم حول مستقبل جنوب سوريا، هي برأيي المسودة الأولى لإعادة هندسة منطقة بأكملها.
في أعقاب فشل الهجوم العسكري الذي شنته سلطة دمشق على السويداء، انتقلت المعركة من الميدان إلى غرف الدبلوماسية والاستراتيجيا. وما تكشفه هذه الخطط هو أن إسرائيل وحلفاءها الإقليميين لا يسعون إلى اجتياح الجنوب السوري كما يتداول، بل إلى تحييد الجنوب بالكامل، وتحويله من مصدر تهديد إلى حجر زاوية في نظام أمني إقليمي جديد.
لا ترغب إسرائيل في احتلال درعا أو السويداء؛ فالاحتلال مكلف عسكرياً وسياسياً. بدلاً من ذلك، تهدف استراتيجيتها إلى خلق منطقة عازلة عميقة متعددة الطبقات تمتد من حدودها حتى مشارف دمشق. هذا النموذج، الذي يذكرنا بترتيبات سيناء الأمنية، يهدف إلى تحقيق السيادة الأمنية المطلقة بأقل تكلفة ممكنة.
الخريطة المقترحة تقسم الجنوب إلى ثلاث مناطق متدرجة: منطقة عازلة منزوعة السلاح الثقيل بالقرب من الجولان، تليها منطقة أمنية خفيفة تقتصر على وجود شرطي، وأخيرا، وهي الأهم، منطقة واسعة تشمل كامل محافظة السويداء وأجزاء من درعا، تفرض عليها منطقة حظر جوي. هذا البند الأخير هو الجوهر الاستراتيجي ؛ فهو يشل تماما قدرة دمشق على استخدام سلاحها الجوي ان وجد، التهديد الأكبر للكيانات المحلية، بينما يحتفظ سلاح الجو الإسرائيلي بالحرية الكاملة للعمل. إنها سيادة جوية كاملة دون الحاجة لوجود جندي واحد على الأرض.
هذه ليست خطة سلام، بل هي خطة فصل قوات وفرض أمر واقع أمني، يهدف إلى إزالة أي وجود عسكري لإيران أو حزب الله بشكل نهائي او تهديد جولاني جهادي ، وتجميد الوضع الحالي الذي أثبتت فيه سلطة دمشق عجزها عن السيطرة على كامل أراضيها.
في قلب هذه الهندسة الجديدة، تجد السويداء نفسها في موقع متناقض وحاسم. فالخطة التي تهدف إلى اخراج الجنوب من سيادة دمشق العسكرية، هي نفسها الخطة التي قد تضمن بقاء وازدهار مشروع الحكم الذاتي في السويداء.
إن وضع كامل المحافظة تحت مظلة حظر الطيران هو بمثابة ضمانة أمنية غير مباشرة لمشروعها السياسي . لقد أثبت أهل السويداء قدرتهم على صد الهجمات البرية، لكن اي تهديد جوي كان سيكوم سيف دمشق المسلط على رقابهم. هذه الخطة تنزع هذا السيف، وتمنح السويداء والمؤسسات المدنية الناشئة المساحة والوقت الآمن للبناء والتطور، وتجبر دمشق على التعامل مع السويداء كأمر واقع لا يمكن تغييره بالقوة.
لكن هذه الحماية ليست مجانية. فالثمن هو ربط مصير السويداء الاستراتيجي بشكل عضوي بالمصالح الأمنية لجيرانها. هذا يعني أن قرارها السياسي الخارجي سيصبح مقيدا، ويجب عليها أن تلعب دور الجار الآمن والمستقر وبل المطيع بشكل دائم. في ظل الخيارات المتاحة، يبدو هذا هو الخيار الأكثر واقعية للبقاء .
الاقتصاد كرافعة للسيادة
إن التحول الأمني سيفرض بالضرورة إعادة توجيه بنيوية لاقتصاد السويداء. فبدلا من التبعية الخانقة لدمشق، سيتحول اقتصاد المنطقة إلى نموذج هجين ثلاثي الأبعاد.
الأردن سيصبح الرئة الاقتصادية والمنفذ الرئيسي إلى العالم. فتح معبر حدودي رسمي سيحرر السويداء من كونها منطقة حبيسة، وسيمكنها من استيراد احتياجاتها وتصدير منتجاتها الزراعية مباشرة إلى الأسواق الإقليمية. الأهم من ذلك، أن الأردن قد يستخدم السويداء كـمنطقة عبور آمنة لبضائعه المتجهة شمالا، مما يخلق مصالح اقتصادية متبادلة تضمن استقرار المنطقة.
أما إسرائيل، فلن تكون شريكا تجاريا مباشرا، بل ستلعب دور المزود التكنولوجي والشريك الاستراتيجي غير المباشر. فمن مصلحتها أن تكون السويداء مزدهرة لمنع نمو التطرف. لذا، من المتوقع أن تدعم، عبر أطراف ثالثة، نقل التكنولوجيا المتقدمة في مجالات المياه والزراعة والطاقة الشمسية، وهي الحلول التي تحتاجها السويداء لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
ولندعو توماس باراك ايضا ليستثمر في السويداء ما الضرر قد يقتنع بالتخلي عن الجولاني اخيرا .
أما دمشق، فستتحول من مركز متحكم إلى سوق ثانوي. لن تنقطع العلاقة، لكن ميزان القوة سينقلب باعتقادي .
ما نشهده اليوم ليس مجرد مفاوضات حول وقف إطلاق النار، بل هو ولادة نظام إقليمي جديد في جنوب سوريا. نظام تفرض فيه السيادة الأمنية من الخارج، وتبنى فيه السيادة السياسية والاقتصادية من الداخل. في قلب هذه المعادلة المعقدة، تجد السويداء نفسها أمام فرصة تاريخية لتحويل موقعها من هامش مهدد بالإبادة، إلى مركز لاستقرار إقليمي جديد، يبني مستقبله على قوة أبنائه، وواقعية جيرانه ان هي استعدت تنظيمياً.
*دبلوماسي سوري سابق