من النفايات إلى الثروات: كيف يصنع الفرز طريق لبنان نحو بيئة نظيفة واقتصاد قوي؟
ربى ابو فاضل - الديار

وكأن أزمة النفايات في لبنان كالمرض العضال الذي لا شفاء منه، إذ لم تعد مجرد قضية بيئية عابرة، بل تحولت إلى أزمة وطنية تهدد صحة الإنسان وتشوه صورة البلاد، ورغم أن الحلول موجودة، إلا أن غياب السياسات الفعالة وسط المناكفات السياسية المستمرة في بلاد الأرز يجعلها رهينة المراوحة.
في ظل هذه الأزمة، يبرز الفرز من المصدر وإعادة التدوير كحل أساسي وضروري، ليس فقط للحد من التلوث، بل أيضاً كفرصة اقتصادية واعدة، حيث يتم تقسيم النفايات منذ لحظة إنتاجها، أي في المنازل، المدارس، المؤسسات والمصانع، إلى أصناف أساسية:
ـ نفايات قابلة للتدوير (بلاستيك، ورق، معادن، زجاج).
ـ نفايات عضوية يمكن تحويلها إلى سماد.
ـ نفايات غير قابلة لإعادة التدوير.
هذه الخطوة البسيطة تساهم في تقليل الكمية التي تصل إلى المطامر بنسبة قد تتجاوز 60%، مما يخفف الضغط عن البيئة والبنى التحتية، وتشير البيانات إلى أن 65% من النفايات اللبنانية مواد عضوية يمكن بيعها إلى معامل التسميد أو المزارع، و25% صلبة قابلة للتدوير، فيما الباقي عوادم لا يمكن إعادة تدويرها.
يشار إلى أن إعادة تدوير النفايات هي عملية تحويل المخلفات إلى مواد جديدة، وتشمل أربع خطوات رئيسية: الفرز، الجمع، النقل إلى المصانع، والمعالجة لإعادة استخدامها في منتجات جديدة.
يؤدي فرز النفايات وإعادة تدويرها دورا حيويا في الحد من الأثر البيئي للنفايات في لبنان، إذ يسهم مباشرة في تقليل التلوث من خلال الحد من انبعاث الغازات السامة الناجمة عن الحرق العشوائي أو التحلل غير المنظم للنفايات في المكبات، وهو ما يحمي الهواء والمياه والتربة من التلوث.
إضافة إلى ذلك، يساعد التدوير في تخفيف أزمة المطامر، خاصة مع تقلص المساحات المخصصة للطمر في لبنان، ما يجعل من تقليص حجم النفايات المرسلة إلى المطامر ضرورة وطنية عاجلة للحفاظ على البيئة وضمان جودة الحياة للأجيال القادمة.
وينتج لبنان بحسب ارقام البنك الدولي أكثر من 2 مليون طن من النفايات سنويا، يتم طمر نحو 80% منها بشكل عشوائي في مكبات غير مطابقة للمعايير البيئية، ما يلوث الهواء والتربة والمياه الجوفية، فالنفايات البلاستيكية وحدها، التي تستغرق مئات السنين لتتحلل، تساهم بشكل مباشر في تلويث البحر الأبيض المتوسط الذي يعتمد عليه لبنان سياحيا واقتصاديا.
لا يقتصر دور إعادة التدوير على الفوائد البيئية فحسب، بل يمتد ليشمل الأثر الاقتصادي الهام على المجتمع اللبناني، إذ يخلق هذا القطاع فرص عمل متنوعة ومستدامة لآلاف الأشخاص في مجالات جمع النفايات وفرزها ومعالجتها وتصنيع المواد المعاد تدويرها، ما يساهم في تحريك الاقتصاد المحلي وتقليل البطالة.
كما يتيح إعادة استخدام المواد والمنتجات المدورة خفض الاعتماد على الاستيراد، وبالتالي تخفيف الضغط على فاتورة المواد الخام وتحسين ميزان المدفوعات الوطني.
إضافة إلى ذلك، يمكن للنفايات العضوية أن تتحول إلى مصادر إنتاجية قيمة، مثل الغاز الحيوي الذي يستخدم كمصدر للطاقة، أو السماد العضوي الذي يعزز الإنتاج الزراعي ويقلل الحاجة إلى الأسمدة الكيميائية، ما يعكس قدرة إعادة التدوير على تحقيق فائدة اقتصادية مزدوجة تجمع بين تعزيز الإنتاجية وحماية الموارد الوطنية.
وعلى الرغم من وجود عدد من المبادرات الأهلية والبلدية الناجحة التي نجحت في تطبيق برامج فرز وإعادة تدوير محدودة، تظل التحديات أمام تعميم هذه التجارب على المستوى الوطني كبيرة ومعقدة، يأتي على رأس هذه العقبات غياب الإرادة السياسية الفعلية، وعدم وجود خطة وطنية شاملة لإدارة النفايات، ما يحد من قدرة الدولة على تنظيم القطاع وتوفير الدعم المالي والتقني المطلوب.
كما يبرز ضعف الوعي المجتمعي حول أهمية الفرز وإعادة التدوير كعامل حاسم، إلى جانب النقص الكبير في البنى التحتية اللازمة لعمليات الفرز والمعالجة، ما يجعل اعتماد هذه السياسات على نطاق واسع أمراً صعب التحقيق.
هذه التحديات المشتركة بين العوامل السياسية والاجتماعية والتقنية توضح أن تحقيق نظام فعال لإعادة التدوير في لبنان يتطلب تنسيقاً متكاملاً بين الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، مع التركيز على التعليم البيئي، وتوفير الدعم اللوجستي، وبناء قدرات مستدامة لضمان تحويل المبادرات المحلية إلى نموذج وطني ناجح.
الجدير بالذكر إلى أن 25 شركة ناشئة برزت تحت مظلة “اتحاد إدارة تحويل النفايات” بشعار “سوا فينا نحل أزمة النفايات بلبنان”، واضعة خططًا لتقليص النفايات الواصلة إلى المطامر وتشجيع الفرز من المصدر، بعض هذه الشركات قدم حلولا ذكية مثل “نضيرة تكنولوجي” التي تستخدم QR Code لمكافأة المواطنين على الفرز الصحيح ما يرفع الوعي ويحول العملية إلى تجربة تفاعلية.
فيما أطلقت منصة “يلا نحولها” شبكة من 17 مركزا موزعا على مختلف المناطق اللبنانية تتيح تسليم النفايات المفروزة مقابل بدل مادي أو نقاط يمكن التبرع بها لجمعيات خيرية، مع متابعة الأثر البيئي عبر تطبيق ذكي، ورغم نجاح هذه المبادرات في إشراك المواطن مباشرة، ما زالت تصطدم بغياب دعم البلديات التي تحتج بضيق الإمكانات، فتظل رهينة التمويل الذاتي بدل أن تتحول إلى حلول وطنية شاملة.
واعتمدت بلدية بكفيا نهجا سباقا، فأزالت مستوعبات النفايات من الشوارع، وبدأت بجمعها من المنازل، وفرزها وإعادة تدويرها، وبدعم من متطوعين ومعدات بسيطة، يعمل معمل B. Clean منذ تسع سنوات على تحويل النفايات العضوية إلى كومبوست، وضغط البلاستيك وبيعه، ونقل العوادم إلى معمل لإنتاج الطاقة، وتمكنت البلدية من بلوغ صفر نفايات في نطاقها.
يشار إلى أن 18 أذار هو اليوم العالمي لإعادة التدوير يُحتفل به سنويا بهدف زيادة الوعي بأهمية إعادة التدوير في حماية البيئة ومكافحة تغير المناخ.
خبير بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه، أكد إلى أنه “يمكن تحويل إدارة النفايات في لبنان من أزمة مزمنة إلى فرصة حقيقية للتنمية المستدامة وحماية البيئة والاقتصاد معا عبر استراتيجية وطنية متكاملة تقوم على إطلاق حملات توعية واسعة تستهدف المواطنين لشرح أهمية الفرز وإعادة التدوير وربطها بحماية البيئة والصحة العامة وتحقيق منافع اقتصادية” مضيفا ” لابد من دعم البلديات وتمكينها من إنشاء مراكز فرز ومعامل تدوير متطورة مع توفير التجهيزات والتدريب اللازم للعاملين لضمان كفاءة العمليات وتحويل النفايات إلى موارد قابلة للاستخدام” مشدداً على تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في هذا المجال عبر إعفاءات وحوافز ضريبية بما يخلق فرص عمل جديدة ويعزز الابتكار، إضافة إلى إدماج التربية البيئية في المناهج المدرسية لبناء جيل واعٍ بأهمية الاستدامة وقادر على تبني سلوكيات بيئية سليمة منذ الصغر.
يشار إلى انه وبدعم من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID تم تفعيل معمل الفرز في بلدة بشمزين الذي استطاع خفض كمية النفايات بنسبة تفوق 50%، وكذلك بلدة مشمش العكارية التي أنشأت معملا خاصا بها لفرز النفايات.
الفرز من المصدر وإعادة التدوير ليسا ترفاً بيئياً، بل ضرورة وطنية تمس حياة اللبنانيين اليومية، وصحة أجيالهم، واقتصاد بلدهم. وإذا ما تم تطبيق هذه المنظومة بجدية، يمكن للبنان أن يحوّل أزمته البيئية الخانقة إلى فرصة للنهوض نحو تنمية مستدامة تحترم الإنسان والطبيعة معاًخاتمة للتقرير مع الدمج الفقرات السابقة.
الجدير بالذكر إلى أنه حاليا لا تعمل سوى ثلاثة معامل فرز فقط من أصل واحد وعشرين مصنعة موزعا على مختلف المناطق، فيما يبقى معمل الكرنتينا الأساسي خارج الخدمة منذ انفجار مرفأ بيروت، رغم أنه كان قادرا على معالجة نحو 1100 طن من نفايات بيروت والمتن يوميا.