أستاذي حسان حلاق…. الذي قدم لنا “بيروت القرية”
منذ لحظة دخولنا كطلاب الى كلية الآداب، قسم التاريخ، في الجامعة اللبنانية جاءنا من يهمس في آذاننا: احذروا الدكتور حسان حلاق فالعمل معه شاق ومضني.
نحن من جيل كان محظوظاً بنخب تعليمية جدّية في الجامعة اللبنانية، وبالرغم من كل ما يقال يبقى لذلك الصرح الوطني قيمته الكبيرة وأثره الوطني البالغ، رغم أننا، وعلى عادة الأجيال المتعاقبة، يبقى للهو والتراخي والتسكع الحيز الأكبر في حياة الطلاب، ولكن التجربة مع هذا “البيروتي” اختلفت.
لحظة دخوله الصف، بقامته الطويلة وشعره الأملس ولهجته البيروتية القاسية، شعرنا بالفرق: نحن في حضرة رجل مختلف… أيها الزملاء فلنحاول التماشي معه واللحاق بمتطلبات ومقتضيات المادة المقررة….. نحن طلاب مطلع القرن الجديد من أبناء القرى وذوي خلفيات ريفية قادمون الى العاصمة التي أبهرتنا زحمتها وشوارعها بعد الحرب واعادة الاعمار.
مرت الأيام والحصص ونحن نفلفش بعضاً من أوراق التاريخ ووثائقه وأحداثه ونستكشف المحاضر الجدّي الملتزم بآداب المهنة وأخلاقها من حيث الشكل، ولكن معه أيضاً ألزمنا بإعادة قراءة الكثير من المقولات وأولها “بيروتنا المتخيلة”.
بيروت التي كانت تبهرنا ببعض شوارعها وأضواءها وناسها ولهجتها وتجارها، وجذبتنا بمساحة بعض الحريات العامة في المقاهي والمسارح، معه أضحت “بيروت المحروسة”، القرية او البقعة الجغرافية التي حملت في ثناياها كل مواصفات قرانا البعيدة من هنا، لديها تركيبة اجتماعية خاصة وعادات وتقاليد مميزة ولهجات متعددة وتنوع مذهبي ووجهاء يلعبون الأدوار المختلفة ورجال دين يسهمون بقسطهم أيضاً.
مع حسان حلاق فهمنا تركيبة ابن المدينة المتدين – المدني، فهو يمارس شعائره ومعتقداته من أجل نفسه دون أن يفرض الأمر عليك، وهو المدني في حياته اليومية، فلا مانع عنده أن يكون مسلماً بالايمان والإنتماء الفطري والعائلي ولكنه الرجل الوطني العام، لا تشعر معه بالفرق بين انسانٍ وآخر.
معه أعدنا اكتشاف بيروت العتيقة (بلهجة أبناء راس بيروت) عبر الوثائق التي حققها والأبحاث التي نشرها تباعاً ودوماً دون توقف، منقباً في الوثائق والسجلات العثمانية والفرنسية ليعيد رسم خريطة بيروت العز، وليؤكد كل حين أن بيروت خليط من الثقافة والعلم والانفتاح، والدور التجاري والسياسي. وله يعود الفضل في نبش الكثير من ملفات منسية تضيء على محطات مهمة يعود اليها الباحثون في كل حين.
طبعاً حلاق البيروتي لم يغرق في أزقة بيروت ويتوقف، بل هو من كتب في التاريخ والحضارة والسياسة والاقتصاد ودور المدن والمجتمع في تغيير مسار التاريخ.
حسان حلاق الباحث والعامل اليومي، القادم الى التعليم الجامعي من التعليم الثانوي، المثابر على الانتاج اليومي لم يتقاعد مع نهاية خدمته الرسمية في الجامعة اللبنانية بل بقي متابعاً في اصداراته الجديدة ومسيرته التعليمية في الجامعة العربية وانتاج الكتب والأبحاث العميقة، طوى صفحة العمر قبل أن يُكمل تصحيح أبحاث طلابه ليلاً.
الدكتور حسان حلاق أول من استخرج وحقق ونشر سجلات ووثائق بلدية بيروت، ونشر التاريخ البيروتي والثقافة البيروتية والتراث البيروتي في كتب ومقالات وفي الصحف والدوريات والإذاعات ومواقع التواصل الاجتماعي، وكان يتحدث بشغف العاشق الولهان عن محبوبته التي تمدد عمرانها أبعد من راس بيروت وطريق الجديدة والنبعة والاشرفية والبلد… .
اليك ايها المجاهد ألف تحية ووردة في يوم وداعك، ولعائلتك الكبيرة والصغيرة العزاء الحار
ولزميلتنا الغالية الصحافية ناديا خالص العزاء بوفاة عمك الذي أحببتي وافتخرتي به دوماً،
والعزاء الحار للجامعة اللبنانية وكل المؤسسات التعليمية التي انتمى اليها وعمل بها وعليها ورفع مستواها التعليمي والأخلاقي
ولكل من عرفك تحية ووردة