«يالطا السوريّة»: خريطة النفوذ تُرسم بالنار والإتفاقات الخفيّة

نشرت وكالة «بلومبيرغ» الأميركية قبل أيام، تقريرا يرصد السياسة التركية تجاه سوريا، في ضوء التنافس الإقليمي والدولي الحاصل على أراضيها منذ شهر كانون أول المنصرم. والتقرير، الذي أشارت الوكالة إلى إن مصادر المعلومات الواردة فيه مستقاة من مسؤولين أتراك، كان قد ذكر بأن «أنقرة تعتزم خلال الأسابيع المقبلة، تزويد سوريا بمعدات عسكرية متنوعة»، على أن تنشر تلك المعدات، التي من بينها سيارات مصفحة وطائرات مسيرة ومدفعية وصواريخ وأنظمة دفاع جوي، في «مناطق الشمال السوري، لتجنب أي توتر يمكن أن ينشأ مع اسرائيل في الجنوب الغربي من البلاد».
وأشار المسؤولون الأتراك، وفقا لتقرير « بلومبيرغ»، إلى أن «تلك الخطوات تأتي ضمن تفاهمات أوسع مع الحكومة السورية، وفي إطار دعم بناء الجيش السوري»، ولم ينس هؤلاء أن يشيروا إلى أن الدعم التركي لدمشق يستند في حساباته الأبعد لهواجس الأمن القومي التركي، التي باتت تخشى من «تنامي نفوذ «قوات سوريا الديمقراطية – قسد» في شمال شرق البلاد»، التي تعتبرها أنقرة امتدادا لـ«حزب العمال الكردستاني»، وهي تحظى بدعم أميركي منذ الإعلان عن قيام «التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب» في العام 2014، والذي لعبت فيه تلك القوات دور الذراع «البري» للقوات الأميركية في حربها تلك.
وأهم ما ورد في التقرير بأن «أنقرة تطمح إلى توسيع نطاق عملياتها من عمق 5 كم إلى 30 كم داخل الأراضي السورية» . والجدير ذكره هنا أن «اتفاقية أضنة» الموقعة بين البلدين العام 1998، كانت قد أعطت لأنقرة الحق في مطاردة من ترى أنهم يهددون أمنها داخل الأراضي السورية، وبعمق يصل إلى 5 كم، من دون طلب الإذن من الحكومة السورية. كما يذكر أن أمر توسيع ذلك العمق ليصل ما بين 30 – 35 كم كان مطروحا ما بين العامين 2022 و 2024. وان سعي أنقرة الراهن للقبول بما كان مطروحا سابقا، أمر له دلالاته التي تتخطى هواجس الأمن.
من دون شك، مضت أنقرة في رسم ملامح سياستها تجاه الساحة السورية، التي تعيش حالة اضطراب داخلي، يضاعف فيها حال الصراع الخارجي الدائر على أراضيها، و الذي يذكر بمناخات الخمسينات والستينات من القرن الماضي وفقا لمعطيين اثنين:
– أولا: مضي واشنطن في بناء قاعدة عسكرية ضخمة في تدمر وسط البلاد . وهذا مؤشر على رسم خطوط التماس التي يجب على الأتراك عدم تخطيها باتجاه الجنوب، والذي لن يسمح فيه بأي حضور عسكري تركي، ومن أي نوع كان.
– ثانيا: التقارير التي تؤكد قيام الروس بنشر نقاط مراقبة على طول خط « الفصل» الذي حددته اتفاقية «فك الإشتباك» الموقعة ما بين «اسرائيل» وسوريا العام 1974، وإذا كان ذلك الحدث ليس جديدا، وقد سبق وأن أقامت القوات الروسية عام 2018، نقطتي مراقبة في بلدتي «الكوم» و«مسحرة»، اللتين تبعدان نحو 15 كم عن «الخط الأزرق» . إلا إن الأمر يبدو مختلفا هذه المرة، إذ يحظى بـ«مباركة» السلطة في دمشق، وقد نوقش باستفاضه خلال زيارة الرئيس السوري إلى موسكو يوم الأربعاء الماضي.
وما يرجح ذلك، هو تعقيب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على موضوع مناقشة القواعد الروسية في سوريا، بعد لقاء الشرع – بوتين، الذي قال «تمت مناقشة كل شيئ… كل شيئ». بمعنى آخر ما كان لهذا المسعى الروسي أن يحث من خطواته نحو الجنوب، لولا وجود توافق حوله مع دمشق، لكن الموقف الإسرائيلي لا يبدو واضحا حيال هذا التوافق السوري – الروسي، القاضي بقيام القوات الروسية بدور ما في الجنوب السوري، ويكون من شأنه طمأنة «تل أبيب» من جهة، وكبح عربدتها الجوية والبرية من جهة أخرى.
وإذا كانت «تل أبيب» تبدي الكثير من مؤشرات «الثقة» حيال أي دور يمكن لموسكو أن تقوم به في سوريا، إلا أن «العقيدة الأمنية الإسرائيلية» تقول بوجوب ألا تعتمد «اسرائيل» على أي أحد في تأمين حدودها . والمؤكد أن تلك العقيدة كانت قد ترسخت بعيد « طوفان الأقصى «بدرجة أكبر»، ثم إنه سيصعب على القوات الروسية أن تقوم بما يشبه حماية الحدود الإسرائيلية من هجمات، يمكن لجماعات محلية أن تقوم بها دفاعا عن قراها وأراضيها المحتلة.
شيئا فشيئا، بدأت ملامح «خطوط التماس» الراسمة لنفوذ القوى الفاعلة على الأرض السورية تتضح بشكل جلي، وإن كان ذلك بشكل غير معلن بعد. فأنقرة تراجعت طموحاتها اليوم لتصبح عند تهشيم «الحلم الكردي»، القاضي راهنا بالحصول على حيثية ما تمثل الخطوة ما قبل الأخيرة، لوصول «الحلم» إلى مرماه الأبعد بإعلان «دويلته»، والتي سيقرع إعلانها جرس الإنذار في كل من العراق وتركيا وإيران.
وواشنطن تريد من خلال إمساكها بـ«الوسط» السوري، لعب دور «ضابط الإيقاع» لأوركسترا يبدي عازفيها قدرا غير قليل من عدم الإنسجام، وصولا إلى تعميم اللحن الذي تريد تسويقه على امتداد المنطقة .
أما موسكو فهي تنظر إلى بقائها في «المياه الدافئة» أمر كفيل بالإبقاء على «الحلم الإمبراطوري» قائما، بعدما شابه الكثير في أعقاب الحرب المتعثرة على أوكرانيا، والتي لم يعرف بعد كيف ستكون نهايتها، حيث من المؤكد أن الصورة ستكون شديدة التأثير على ملامح «الحلم».
وتبقى «اسرائيل» التي لم تقل كلمتها النهائية بعد، بالرغم من أن الكثير من «كلماتها» السابقة يشير إلى أنها تسعى إلى استمرار الفوضى السورية سبيلا وذريعة، للتدخل وقت تشاء، وحينما تصبح «الرسوم» من النوع الذي «يخدش» صورة الهيمنة التي لم تعد غاية بحد ذاتها، بل سبيلا وحيدا لازما للبقاء.



