مجتمع

ظاهرة النزوح العكسي أبرز مخلّفات كوفيد-19

لم تقلب جائحة كورونا موازين القوى الاقتصادية في العالم فحسب، بل أطاحت بعادات المجتمع برمتها. ولبنان ليس استثناء؛ لطالما اعتاد المواطن الفخور بمناخه وطبيعته، أن يغيّر سكنه في فصلي الصيف والشتاء من كل عام. يختار الريف اصطيافاً، والمدينة للشتاء.

بعد انتشار الوباء، انقلبت “الآية” التزاماً بتغيّرات في العادات، كإجراءات التباعد الإجتماعي، والتعبئة العامة، وحظر التجوّل، ونظام التعلّم عن بُعد (مدارس، معاهد، جامعات)، والعمل من المنزل، وتخفيف النشاطات الإجتماعية والترفيهية (ريادة المطاعم والملاهي، التسوّق، وتبادل الزيارات؛ وأصبح لبنان يواجه ظاهرة “النزوح العكسي.”

“جان وريتا”: في الضيعة صيفًا شتاءً

“النزوح العكسي”، هو النزوح المعاكس للنزوح الطبيعي الموسمي؛ وقد بدأ المجتمع اللبناني يشهد هذه الظاهرة مع بدايات أزمة وباء كورونا، حيث شعر سكان المدن بعبء الحجر المنزلي والحصار في المدينة، فلجأوا إلى القرى ليتنفسّوا الصعداء. وباتت قرى لبنان تعجّ بمصطافينها صيفًا وتزدحم شتاءً بوافدين هاربين من “روتين” الساحل.

ظاهرة النزوح العكسي تعيشها عائلة “جان وريتا” حسب ما تروي  لـ “أحوال”: “إخترنا العودة إلى الجذور، تاركين مقرّنا الشتوي في جونية”.

ويكشف ربّ الأسرة: “قررت بعد عشرة أعوامٍ من الإشتاء في جونية تجهيز منزلي القروي بكل وسائل التدفئة لنستقرّ به صيفًا شتاءً، فما حاجتنا لمنزل شتويًّ في حين لا مدارس ولا جامعات ولا مطاعم ولا زيارات إجتماعية، ولا حتى دوام عمل في أغلب الاحيان.

أسباب النزوح:

للنزوح العكسي أسبابه وتداعياته الإجتماعية، تلفت إليها الأخصائية الإجتماعية-الصحية نانسي خوري لـ “أحوال”، التي جزّأت أسباب نزوح الإنسان عامةّ إلى:

  • أسباب سياسية أمنية:

تعلّل خوري أسباب النزوح السياسية والأمنية، وتقول إنّها عادة ما تنتج هروباً من الحروب والصراعات على كافة أنواعها؛ بالإضافة إلى الشعور بالاضطهاد، طلباً للسلام والأمان؛ الفساد السياسي، واستياء المواطنين من ظواهر اجتماعية كالبلطجة، والإعتداء، والمضايقات. ولعلّ أكثر ما ينطبق من هذه العوامل على لبنان، هو الفساد السياسي.

  • أسباب إقتصادية:

تشير الأخصائية الاجتماعية إلى أسباب اقتصادية وراء النزوح، بحثاً عن فرص عمل أو مهام جديدة، هروباً من الفقر والعوز، وأحياناً تخوّفاً من المجاعة.

  • أسباب صحية وبيئية:

منها أمراض وأوبئة، تلوّث، حرارة الطقس، كوارث طبيعية.

  • أسباب إجتماعية:

تشمل لمّ الشمل، البحث عن شريك، حالات طلاق أو زواج، وتوفّر خدمات تعليميّة.

علاقة الإنسان “المحجور” بأرضه

وعن تأثير وباء كورونا والحجر المنزلي على علاقة الإنسان بأرضه، تعتبر الأخصائية الإجتماعية-الصحية أنّ الشّروط التي فرضها كورونا على العالم إجمالًا، وعلى لبنان خصوصًا، لم تكن كلّها سلبيّةً؛ حيث أنّ الإغلاق والتباعد الاجتماعي والإجراءات التي إتخذتها الدول لمواجهة انتشار كوفيد ١٩، خلقت “نزوحًا عكسيًا” من المدن إلى الأرياف. وشجع  النزوح الناس على الرجوع إلى أرضهم والإهتمام بزراعتها وإنتاجها، بعدما بات العديد من المواطنين يزرعون الأراضي لتحقيق الإكتفاء الذاتي من الخضروات والفاكهة في الإنتاج.

وتلفت الخوري إلى “ضرورة وجود الإنسان بالقرب من أرضه، وابتعاده عن العمل والضغوطات اليوميّة والإجتماعيّات، ما يؤدي إلى تركيزه ووضع كلّ طاقته بالأرض وبالزراعة للإستفادة منها”. وتشير في خلاصة رأيها إلى مدى مساعدة هذه العوامل المواطن على التقرّب أكثر من أرضه وإعطائها حقّها والاستفادة منها.

النزوح العكسي من المنظور الإقتصادي

عن الأسباب الاقتصادية للنزوح العكسي، يلفت الباحث الإقتصادي والمالي الدكتورمحمود جباعي إلى “أحوال” أنه هناك مؤثرات اقتصادية معيّنة تجذب الإنسان للنزوح نحو جهة معيّنة، كإنتشار عملية  عملية “تمدين الريف”، أي تحويل الحياة في المناطق الريفية لحياة شبيهة بالمناطق في المدينة.

ويعدّد جباعي بعض أسبابها، كالإزدحام السكاني الهائل في المدن، وقرب المساحة الجغرافية بين المدينة والريف؛

أمّا السبب الأبرز، فهو كلفة الحياة المتدنية بنسبة 40% في الريف عمّا هي عليه في المدينة، وذلك بسبب ما تفرضه الأخيرة من تكاليف نشاطات إجتماعية (زيارة مطاعم والقيام بأنشطة ترفيهية)، ودفع إيجارات سكن وتسديد رسوم وضرائب وفواتير.

الريف… الملاذ الآمن

ويتابع جباعي، أنّ الريف يخفّف من وطأة البطالة وانخفاض الأجور الكارثي، ويؤمن ملاذاً آمناً للإنسان خصوصًا في ظل أزمة كورونا المستجدة؛ ناهيك عن تقليل الكلفة الباهظة للمعيشة، سيّما في العودة إلى زراعة الأرض، والإستفادة من منتجاتها بطريقة بسيطة دون تكاليف وبذخ وصرف.

وحول العودة إلى نمط “الحياة ما قبل كورونا” يرى جباعي أنّه “من المستبعد العودة إلى نمط الحياة السائدة “ما قبل حقبة كورونا”.

ويربط الباحث الإقتصادي والمالي عودة الحياة الاقتصادية الى ما كانت عليه قبل كورنا بالوضع السياسي، وبتشكيل الحكومة، وما قد توّفره من حلولٍ للأزمات المالية والإقتصادية والمعيشية ليحسّن المواطن وضعه الإقتصادي والمعيشي.

وباء كورونا ككلّ طارىء على بيئةٍ، يضرّ بأشياءٍ وينفع لو بالقليل القليل بشيءٍ آخر. وهنا قد نفع هذا الوباء ولو بطريقة غير مباشرة، فقد علّم الإنسان أن يقدّر قيمة أرضه ويحفظ خطّ العودة نحو الأصالة والجذور.

فادي سلامه

فادي سلامة

صحافي ومتخصص في مواقع التواصل الاجتماعي. حائز على شهادة ماجستير في الصحافة وعلم التواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى