منوعات

القطاع التعاوني في لبنان بين سياسة الريع وعجز الإنتاج

تشدّد الخطابات السياسية في لبنان على أهمية بناء الاقتصاد الإنتاجي، الذي يرتفع شعاراً في أكثر المناسبات ذات الصّلة، بل يذهب المشتغلون بالشأن العام المتحمّسون للإنتاج (من دون عمل) إلى ذمّ البعض ممن بنى تجربته الاقتصادية على الريوع. لكن المواطنين الواقعين تحت طائلة التنظير والفقر يتساءلون عن الحلول المتاحة في واقع البلاد لا في لبلبات اللسان.

البعضُ سيقول إن حلّ الأزمة الاقتصادية كامن في إصلاح قطاع الكهرباء، ووقف الهدر، وتحصيل أموال الأملاك البحرية… وهؤلاء التكراريّون “يحبّون القرش الفايش” الذي لا يأتي ولا يُغني… وينسون الإنتاجَ في زحمة الصفقات وتسوياتها.

لكن للإنتاج قواعدَ لا تحترمها الدولةُ اللبنانية، وثمة قطاعاتٌ لا توليها العنايةَ اللازمة، وثمة فلسفة ينبغي للبنانيين أن يستبدلوها بأخرى، وليست على قدر من التعقيد… فأنّى لنا إنتاج، ونحن في ما نحن عليه؟ وأيّ المؤسسات تلك التي يُمكنها الاستجابة لهذا التحدّي؟ وأيّ القطاعات هو ذاك الذي يغطّي هذه المساحة الإنتاجية في الاقتصاد الوطني؟

يعتقد كثيرون أن القطاع التعاوني، الذي يجسّد مبادئ الوطنيين واليساريين والمحرومين والمستضعفين ولا يخلّ بتوجّهات الرأسماليين، يمكنه أن يحقق نقلة اقتصادية اجتماعية، وأن ينجح في إدماج الكثير من الشباب الراغب في الهجرة، إلا أنّه عدوّ المتنفّعين من المال العام والمسترزقين من التبعية والاستزلام والزبائنية.

غلوريا أبو زيد: نطالب بدعم التعاونيات

وفي غمرة النقاشات حول الواقع الاقتصادي، توجّهنا للقاء وزارة الزراعة والمديرية العامة للتعاونيات تحديداً، ممثّلة بالمديرة العامة المهندسة غلوريا أبو زيد، وطرح “أحوال” عليها تساؤلات كثيرة حول القطاع الذي تعود نصوصه التأسيسية إلى عهد الرئيس فؤاد شهاب، فأجابت بالرهان على وعود هذا القطاع الإنتاجي الذي لم يحقق العائدات الكثيرة، وعزت ذلك إلى أسباب مختلفة “ومشكلات وتراكمات إدارية بل إخفاق إداري، ما حرم البلاد مساهمةَ القطاع التعاوني في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي”.

وإذ أكّدت أبو زيد على أن “التعاونيات مشاريع اقتصادية ذات منافع ومردودات اجتماعية”، رأت أن “استجابة هذا القطاع للمرحلة الراهنة والأزمة الاقتصادية الوطنية جاءت ضعيفة”.

وشدّدت على أن “للمديرية العامة للتعاونيات دوراً على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، ويجب أن نلمس هذا الدور في الواقع من خلال آليات المراقبة والمساعدة والتدريب للتعاونيات. وقد حال دون ذلك الضعف الإداري الداخلي المزمن، واستبعاد القوانين كليّاً أو جزئيّاً في السابق، على الرغم من التشريعات التعاونية الرائعة. فعدم تجسيد المبادئ التعاونية عمليّاً، حرم القطاع التعاوني خصوصيّته وتميّزَه وتحقيقَه الأهدافَ التنموية والاقتصادية الاجتماعية”.

وأشارت أبو زيد إلى أن “للتعاونيات كمؤسسات اجتماعية دوراً كبيراً في تنمية مجتمعاتنا المحلية، وبإمكانها تحقيق أهداف التنمية المستدامة في اقتصادات المناطق، لترفد في مرحلة لاحقة الاقتصاد الوطني”.

وركّزت أبو زيد على دور القطاع التعاوني في الحفاظ على الطبقة الوسطى وحيويتها الإنتاجيّة بوساطة المشاريع الاقتصادية، وربطت ذلك : “بضبط المجتمع التعاوني وتنقيته من الشوائب لصالح التعاونيات النشطة”، معتبرة أنّه “لو كان القطاع التعاوني على استعداده لاستجابت البلاد للأزمة بطريقة فاعلة ومنتجة”.

وقالت أبو زيد إن “حصر التعاونيات ذات الأوضاع الإدارية والقانونية السليمة اليومَ مقدّمةٌ لتفعيل نشاطها، على أن نُبعد الزبائنية عن القطاع ونسعى إلى تحقيق نمو اقتصادي، بناءً على ما يتميّز به العمل التعاوني من خدمة للمجتمعات الضعيفة، ومن تعزيز للمشاركة الشعبية، وفق مبادئ المساواة بين الأعضاء، والتشاركيّة، والإنصاف الذي هو أسمى حالة من حالات العدالة”.

وأوضحت أبو زيد أن المديرية العامة للتعاونيات “تقوم بالتدريب، وتسعى من خلال التعاون مع بعض المنظمات والجهات الداعمة إلى الاستفادة من الخبرة الأوروبية في العمل التعاوني، لا سيّما إيطاليا التي تتميّز في هذا المجال، وهي التي أدخلت الفكر التعاوني في المنهج الدراسي لطلابها، وطبّقته في كثير من مناحي الحياة الاجتماعية”.

وتخلص أبو زيد إلى القول ألا “ثقافة تعاونيّة في لبنان حيث يتمّ النظر إلى الدعم المقدّم إلى التعاونيات بعدم التقدير، في الوقت الذي يشكّل هذا الدعم استثماراً في مشاريع إنتاجية تدخل في صلب العمليّة الاقتصاديّة الوطنيّة”.

وختمت أبو زيد بالتأكيد أنها تأمل في “أن يقوم المعنيّون بتوجيه الدعم الحكومي إلى القطاع التعاوني، في وقت تتمّ متابعة “التدريب التعاوني، والعمل مع البلديات والاتحادات، ونشر كتيّبات وتوزيعها” وفق إمكانيات المديرية.

تعاونية عيثرون: خلق فرض عمل

وفي سياق الاطّلاع على التجارب التعاونية الواعدة، وقعنا في عيثرون جنوباً على تجربة التعاونية الزراعية، والتي تميّزت بتعاون متعدّد الشركاء هم: الجمعية والبلدية وجمعيات إيطالية، ما أنتج معملاً متكاملاً لتصنيع الإنتاج المحليّ من الحليب ألباناً وأجباناً.

شرح حمد حسن (مهندس زراعي والمشرف على معمل ألبان وأجبان عيثرون) في حديثه إلى “أحوال” تجربة التعاونية فقال: “بدأنا نشاطنا عام 2008، وكان أول مشروع عملنا على تنفيذه هو معمل الألبان والأجبان، بالتعاون مع البلدية والإيطاليين انطلاقاً من معاناة مربّي الأبقار في البلدة وانعدام تصريف منتجاتهم، على الرغم من كون عدد الأبقار في تلك الفترة لم يكن يتجاوز الـ 25 رأساً”.

وأعلن حمد أن مشروع عيثرون في التصنيع الزراعي “ساعد المزارعين الموجودين في البلدة، وخلق فرص عمل مرتبطة بالنشاط المحلّيّ، حيث ازداد عدد المربين من 10 إلى 42 مربّياً، وازداد عدد رؤوس القطيع في البلدة والجوار من 25 بقرة إلى 400 بقرة”.

وأشار حمد إلى أن اتفاقاً بين التعاونية والبلدية جرى على الاستمرار في تطوير المعمل، بالإضافة إلى التوافق على مشروع يخدم أهل البلدة”، وأكد أن “التعاونية تقدّم للمواطنين منتجات ذات جودة عالية مضمونة بأسعار قد تقلّ عن أسعار السوق”، موضحاً أن “المنتج التعاوني ذو خصائص طبيعية مميّزة وخالٍ من المواد المضافة كالحليب المجفف، ويتحلّى بالنظافة ووحدة معايير الإنتاج”.

ولفت حمد إلى أن “المشروع كان مموّلاً في بدايته من برنامج التعاون الإيطالي، وحصلت  التعاونية على 10 ملايين ليرة لبنانية من المديرية العامة للتعاونيات في وزارة الزراعة لتجهيز صالة الإنتاج في المعمل، بالإضافة إلى مساعدة من الـUNDP موجّهة لمربّي الأبقار مباشرة”.

وأبدى حمد اعتزاز تعاونية عيثرون بتقديمها “الخبرات للتعاونيات والبلديات التي ترغب في فتح مصانع، من دون استثناء المزارعين الذين يرغبون في التصنيع المنزلي. وقد شمل التعاون معمل اتحاد جبل عامل في حولا، ومعمل بلدية دير قانون النهر، إلى جانب تقديم العديد من الدراسات إلى البلديات المختلفة”.

برو: أزمة التعاونيات مظهرٌ لأزمة النظام

أما د. زهير برّو (جمعية حماية المستهلك) فاخذ “أحوال”، في تحليلٍ قدّمه، إلى بُعد سياسيّ واجتماعي، بعد إعلانه أن “دور التعاونيات في هذه الأزمة شبه معدوم، ولا تأثير إيجابياً لها يلمسه المواطنون في الاقتصاد الوطني”، وأنّه لا يفرّق في ذلك بين “التعاونيات الزراعية أو الإنتاجية…. أو الاستهلاكية، فكلّها تعاني المعوّقات الكثيرة المرتبطة بطبيعة النظام العام في البلاد”.

وقارن برّو تجربة لبنان التعاونية بتجربة الغرب، فقال: “الغرب ذو تجربة مختلفة تماماً، وغنية في مساهمتها الاقتصادية الاجتماعية، حيث تمّ ربط الإنتاج بالأسوق من دون تدخّل الوسطاء الذين يرفعون من أسعار السلع وقيمتها الشرائية”.

و شدّد برّو على أن “السبب في أزمة القطاع التعاونيّ هو الثقافة التعاونية المفقودة، التي تقوم على المصالح المشتركة لا على تغليب العلاقات الاجتماعية الأوليّة كالقرابة والانتماء الضيّق… والزبائنية والتبعية، في وقت يجب على التعاونيات تحقيق أهدافها المنصوص عليها بما يعود بالفائدة على مصالح أعضائها في النهاية”.

ورأى أن “للتعاونيات دوراً عليها أن تؤدّيه بعد تغيير الرؤية الرسمية للقطاع التعاوني، وبعد تطوير نظرة المجتمع إلى مصالحه، بناءً على قواعد التعاون، وبعد التخلّص من الزبائنية للزعماء المنتفعين من بقاء احتكارات التجار والوسطاء”.

في ظلّ أزمة اقتصاد وطني خانقة وقطاع تعاونيّ ضعيف البنية والإنتاجية، يبقى الأمل معقوداً على الجهود المبذولة باتجاه تطوير الثقافة التعاونية وبنية القطاع التعاوني، وصولاً إلى استراتيجية تعاونية لا تعوّقها عناصر الفكر والقانون والأموال.

طارق قبلان

طارق قبلان

مجازٌ في الصحافة واللغة العربيّة. كاتب في السياسة والثقافة، وباحث في اللهجات والجماعات الإسلامية والحوار الديني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى