منوعات

الاحتلال الناعم: السلطنة العثمانية تعود من باب الغزو الثقافي

استمرّ الاحتلال التركي للبنان والشام ما يقارب الأربعمئة عام ويدرّس هذا الإحتلال في المنهاج اللبناني, عبر مادّة التاريخ لتنطبع بالذاكرة الاجتماعية وحشيةُ هذا الاحتلال وقساوته. انتهى الاحتلال التركي ودخلت البلاد في مرحلة الاستعمار الفرنسي عبر أتفاقية سايكسبيكو او المصطلح المعترف به “الانتداب”.

مضى على الاحتلال العسكري التام للمنطقة أربع وسبعون عامًا، تغيّر الزمن وتطوّرت وسائل الاحتلال لنواجه اليوم احتلالًا اقتصاديًا وثقافيًا في لبنان والشام وهذا ما يُعرف بـ”الاحتلال الناعم”.

تعرّف الحرب الناعمة على أنّها القوّة الناعمة أي الثورة التي تجلب الآخرين إلى النتائج التي تودّ وصولهم إليها عن طريق الإقناع والنفاذ إلى معتقداتهم وأفكارهم بالجذب، لا بالعنف والإرغام.

على مرّ السنين ازدهرت تركيا سياحيًا وإنتاجيًا وغزت الأسواق اللّبنانية والسورية. لا حاجة لفيزا للسياحة في الجزر التركية فالدّولة اللّبنانية أقرّت اتفاقًا سياحيًا ما بين الدولتين كما واعترفت بالزواج المدني في المحاكم التركية. وهذه الدوافع – السياحة والزواج المدني – هي معطيات تحفيزية وغير مكلفة للمواطن اللّبناني، أمّا للمواطن السوري فتركيا هي باب أوروبا للّجوء كما وعملت الدولتان على التسهيل الجمركي للتجار؛ ففي لبنان الضرائب الجمركية شبه معدومة وفي سوريا تمّ بناء خط “تهريب” واضح ومباح.

 

يصرّح النائب في البرلمان السوري عضو مجلس الشعب الدكتور أحمد مرعي لـ”أحوال” : “يعتبر التركي انطلاقًا من أيديولوجيته أنّ المناطق الحدودية مع سوريا هي جزء من الأراضي الجنوبية التركية بالتالي هذه الأراضي هي تركية لذلك مع بدء الحرب في سوريا وتحت مسمّى الدفاع عن الأراضي التركية لذلك سارعت السلطات التركية لتسليح المجموعات التكفيرية في المنطقة بهدف بناء حصانة ذاتية لحماية الداخل الأنضولي”.

الصراع الأيديولوجي على الأرض ليس بجديد ولكن تمّ استبدال استراتيجية جمال باشا السفاح بالتجنيد الإجباري والمجاعة للخضوع بالخدمات الإنمائية للمواطن عبر التنمية الاجتماعية المستدامة. وفي هذا السياق يضيف النائب مرعي: “مثلاً في جرابلس وعفرين تمّ انشاء مؤسسات تركية نذكر منها المستشفيات والمدارس وحتى انشاء مراكز للشرطة التركية وكلّ هذا بهدف إعادة قولبة العقول في المنطقة وخلق نظام مصلحي يربط السوريين بالداخل التركي بحيث تصبح مصلحة المواطن الوجودية والمعيشية مرتبطة بشكل مباشر بالدولة التركية وليس بالدولة السورية”.

الجزء الأهم من الاحتلال التركي الناعم هو الاحتلال الثقافي الاجتماعي، فالمسلسلات هي مرآة المجتمع وتؤثر بشكل كبير فى إعادة تشكيل بعض سلوكيات الناس سلبًا أو إيجابًا. الدّراما تعكس ثقافةَ المجتمع وقد تخلق ثقافةً جديدة فيه، فهي قد تبني وقد تهدم القيم الاجتماعية المتوارثة. غزت المسلسلات التركية شاشات منازلنا بشكل مفاجئ من “نور ومهند” عام 2005  مرورًا بـ”فطمة” عام 2010 وصولًا لحريم السلطان بجزئه الأخير.

انتشار الأعمال التركية في مجتمعاتنا يعود إلى الجرأة والحرية المتاحة فى التفاصيل الاجتماعية، وربما تبدو النساء أكثر حضورًا للمسلسلات التركية، فقصص الحب أقرب للنساء إجمالًا، فيتابعن الأزياء المبهرة. أمّا أكثر ما يبهر الشابات في المسلسلات التركية وفاء المحبوب ولوعة حبّه، وذلك لأنّ الدراما التركية تقدّم البطل بصورة الشخص الودود، غير المتسلط، وهو على عكس السائد فى الدراما العربية، حيث تكون المرأة دائمًا ضحية، وأدوارها ربة منزل أو سكرتيرة.

حتى للرجال حصّة من المسلسلات، فـ”وادي الذئاب” هو المفضّل للرجال وربما يعود السبب إلى كون الرجل يسقط نفسه في عباءة بطل المسلسل الذي لا يقهر.

في حوار لـ “أحوال” مع المرشدة الاجتماعية وفاء صفية تصف حالة الغزو الثقافي بأنّه أخطر الاحتلالات!

و تشرح صفية: “أخطر أنواع الاحتلال هو الاحتلال الثقافي. فإذا أردت احتلال مجتمع ما فعليك بالثقافة، وأهمها الإعلام من برامج ومسلسلات وأفلام”.

وتضيف المرشدة الاجتماعية: “بالنسبة للأتراك ومسلسلاتهم التي تغزو المجتمع اللّبناني منذ سنوات فلها تأثيرها السلبي والسلبي فقط ويظهر ذلك من خلال حالات الخلافات الزوجية وحالات الطلاق والخيانة التي ازدادت بشكل كبير في الآونة الأخيرة، ويعود أحد أسبابها لتأثير هذه المسلسلات في القيم الاجتماعية والأخلاقية حيث تجسد العلاقات خارج الزواج على أنّها مشروعة بحجّة الحب الأعمى والحب المستحيل والحب الأول… أي سيطرة الممثلين على تفكير وشعور المشاهد بحيث يطبّق هذه المشاهد وكأنّها حياة عادية لا ريب فيها. وبالمقابل مع الغزو التركي انتشرت العدوى للدراما اللّبنانية فأصبحت نسخة عنها ولكن باللّهجة البنانية.

ولا ننسى الأهم تأثير المسلسلات التركية الكبير على الأطفال والمراهقين المتابعين للمسلسلات مع وذويهم بحيث يمارسون ما يشاهدون في حياتهم اليومية وهنا الخطورة الكبيرة في بناء جيل جديد بثقافة لا تشبه مجتمعنا بشيء فتغدو التربية الوطنية غائبة كلياً والأهل أمام صعوبة كبيرة وضياع أمام ما يشاهده أبناؤهم وما يفعلون بحياتهم اليومية وما القيم الأساسية لتربيتهم”.

الحرب التركية الناعمة ستستمر، وبالرغم من موقف تركيا الحضاري في الاعلام وعبر تصريحاتها بحق السيادة السياسية والاجتماعية للبنان وسوريا هي تعمل بصمت وحنكة ومنهجية عالية لتوجيه العقول المتلقيّة لثقفاتها هي.

اليوم لم يعد جمال باشا السفاح يخطر بذهننا عن سماع كلمة تركيا، لم تعد الذاكرة الاجتماعية مشحنة بالقتل وكب الزيت المغلي على الأحياء بل أصبحت مليئة بصورة تركيا الحضارية.

النموذج التركي أثبت نجاح الاحتلال الناعم لثقافة الشعوب.

 

ربى حداد

ربى حداد

ناشطة اجتماعية وسياسية وصحافية لبنانية . خريجة معهد الفنون في الجامعة اللبنانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى