سياسة

تأليف الحكومة معلّق بانتظار الساحر الفرنسي والعقوبات

الجمود يتسيّد الاتصالات حول تشكيل الحكومة بعدما أظهر العقل اللّبناني عجزاً عن اجتراح الحلول الذاتية للاشتباك السياسي المعطّل لأي تشكيلة حكومية ولا ابتداع الحلول الناجعة للخروج من الأزمات التي تتخبط فيها البلاد منذ أشهر عدّة. وزادت الاتصالات تعقيداً بعد قرار العقوبات الأميركية على النائب جبران باسيل، فيما رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري يدور في فلك التردّد بين شكل الحكومة ولونها وتوزيعات الحصص فيها دفعته إلى التراجع عن التزامات في وقت ازداد تصلّب مواقف الكتل السياسية الأخرى ما يشي بأنّ المبادرة الفرنسية ماتت سريرياً فيما تأتي زيارة الموفد الفرنسي لإنعاشها في اللّحظة الأخيرة قبل أن ترتقي روح مبادرة بلاده إلى مثواها الأخير.

قبل التشييع الأخير للمبادرة الفرنسية يشهد قصر الصنوبر والمراكز الرئاسية اللّبنانية جولة مباحثات يتولاها المستشار الرئاسي لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط باتريك دوريل، لإنعاش دور باريس الذي انحسر بريقه في لبنان مع عصف العقوبات الأميركية بحق رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وبالتزامن مع خسارة الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب وتقلّب الموازين السياسية الإقليمية في المنطقة. 

وإذا كانت التسريبات التي خرقت جدران التكتّم على طبيعة الاتفاقات الحكومية بين الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية أوحت في فترةٍ ما أنّها قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال، فإنّ مصادر مطّلعة تشير إلى أنّ تفاصيل خريطة الحقائب والتوزيعات السياسية والأسماء ستُنجَز هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل على أبعد تقدير بين الرئيسين وذلك بعد انتهاء جولة الموفد الفرنسي وفق التقديرات المتفائلة.

جرعة التفاؤل التي يشيعها البعض لا تتوافق مع بيدر الحصاد السياسي المطلوب للسلّة الحكومية الملائمة لجسد لبنان الذي يقاتل أمراضاً تُفقِدُه المناعة الوجودية يوماً بعد يوم. وجمود الاتصالات بين بيت الوسط والدوائر السياسية الأخرى في البلد يعني أنّ لا ثمار ستُجنى لوضع الأمور على سكّة الانطلاق بالبرامج الإصلاحية ومعالجة الأمور الحياتية و”مكانك راوح”، إلّا إذا كان للموفد الفرنسي مهارات ترويض المشتبكين والقدرة على تفكيك الألغام بينهم.     

الحريري الصامت الأكبر في هذه المرحلة العاصفة ما زال يرى نفسه الخيار “الأوحد” الذي لا بديل عنه للخروج من النفق المظلم القابع في داخله لبنان بخاصةٍ بعد فشل شخصيات أخرى في تولي رئاسة الحكومة. وهو حتّى هذه اللّحظة ينأى بنفسه عن التواصل مع الكتل النيابية ويحصر اتصالاته برئيس الجمهورية فقط وفي الوقت نفسه يُصرّ على الخروج بتشكيلة حكومية قويّة تُعيد تصدّر بيت الوسط للمشهد السياسي اللّبناني ويستعيد الحريري الجديد بريقاً فقده حتى في أوساطه. 

المغامرة الحكومية الجديدة التي ارتضى الرئيس سعد الحريري لنفسه أن يخوضها شهدت في الأيام الأخيرة مداولات حول صيغة المداورة على الحقائب السيادية والخدماتية لفكّ الاشتباك حولها لكنّها سقطت مع ارتفاع منسوب “التسييس” الذي رافق العقوبات الأميركية على النائب جبران باسيل وتنازله عن التنازل في فرض الشروط ورفع “لاءاته” في وجه الحريري الذي افترض أنّ بإمكانه توزير المسيحيين دون رأي الكتل المسيحية. وباسيل الذي لن يخضع للتهميش بعد الآن، يحظى بغطاء من حليفه حزب الله الذي لن يرضى الاستفراد بشريكه لا سيّما أنّه مستهدف من الإدارة الأميركية والأخير سيعمل جاهداً على تحقيق المساكنة بين رئيسي التيارين الأزرق والبرتقالي. 

حزب الله الذي يدرك أنّ مشكلة أميركا مع لبنان هي المقاومة عبر تحميله مسؤولية كلّ المصائب في لبنان ومعاقبته مع حلفائه، كما يقول الأمين العام السيد حسن نصر الله خلال كلمته المطوّلة في “يوم الشهيد”، يُدرك أيضاً أن في لبنان من يحرّض الأميركيين على فرض عقوبات على باسيل لحسابات شخصية وسياسية. وفي هذا الإطار لن يترك “الصديق” جبران باسيل لا أمام انتهاك السيادة اللّبنانية من أميركا أو غيرها ولا في مهبّ الضغوط السياسية الداخلية. السيد نصر الله الذي حيّا “شجاعة” باسيل بلغته وأدبياته الخاصة ورفضه للخضوع، دعا إلى دعمه في مواجهة الضغوط الخارجية، وبالتالي أكّد على دعم التشاور بين كلّ من رئيسي الجمهورية والحكومة لتسريع تشكيل الحكومة معاً.

وفيما أوحى كلام نصر الله أن تشكيل الحكومة يحتاج مزيداً من الوقت، تشير معلومات أنّ ثمّة اتجاه متنامي للعودة إلى توسيع الحكومة وجعلها تكنو سياسية لكي تتمكّن من العمل دون صعوبات ومواجهات مع الكتل النيابية في مجلس النواب. لكن هذه الرغبة اللّبنانية قد تُطيح بها الرعاية الفرنسية التي ترفض العودة إلى نهج المحاصصة الذي أدّى إلى التدهور الشامل والانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي الحاصل والاكتفاء بحكومة اختصاصيين مستقلة.

وفيما يُغيّب الحريري الجميع عن اتصالات التأليف يبرز في حركة المشاورات السياسية الزيارة التي قام بها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، ووضعت في خانة تبادل وجهات النظر الحكومية ومشاركة الدروز من حيث العدد والحقائب. 

في وقت بقاء الكباش اللّبناني على حاله من المراوحة، يجري انتظار الساحر الفرنسي ليقدّم وصفته للحل، وزيارة الموفد التي تستمر يومين حمّالة أوجه فهي ليست بسذاجة افتراض أنّها تحمل الدفء إلى عروق الملف الحكومي البارد ولا لإنعاش المبادرة التي أطلقها الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون فقط بل “ستُلوّح بالعصا لمن عصى”، والعصا الباريسية على غرار نظيرتها الأميركية “العقوبات”!. وبحسب مصادر مطّلعة فإنّ دوائر الإليزيه تدرس فرض عقوبات على معرقلي تشكيل حكومة لبنانية الذين سيُعتبرون في خانة “مخرّبي عملية الإصلاح البنيوي المطلوب للبنان”. وترغب باريس في هذه المسألة تأمين غطاء أوروبي موسّع للعقوبات بحيث يتمّ تجميد الأموال المنقولة وغير المنقولة للشخصيات المُعاقبة وإلغاء تأشيرات “شينغن” في كافة أنحاء أوروبا.

بالنسبة إلى الفرنسيين لم يعد مسموحاً الاستمرار في نهج الطبقة الحاكمة التي يخنق البلاد وتمنع اللّبنانيين من التنفس. ولسان حال اللّبنانيين الذي يتنسمّون العقوبات الخارجية على السياسيين بعدما فقدوا القدرات والأدوات على المحاسبة، هم كحال بولخيريا ألكسندروفنا في رواية “الجريمة والعقاب” رائعة الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي التي تقول “أين يمكن أن يتنفس الإنسان في هذه المدينة؟ حتى في عرض الشارع يحسّ المرء أنّه في غرفة بلا نوافذ”. 

والحال أنّ “الأم الحنون” ستُلوح بالعقاب لكلّ من يتسبب باستنزاف اللّبنانيين وعدم تنفيذ مبادرتها وهذا ما ألمح إليه الرئيس الفرنسي خلال زيارته السابقة. وبناء على هذا العزم فإنّ باتريك دوريل سيُخضع المسؤولين اللّبنانيين للاستجواب حول عدم المضي قدُماً بالمبادرة الفرنسية وأين العرقلة والحلول المقترحة. وبحسب مصادر مطّلعة فإنّه سيحُث على الإسراع بإنجاز ملف تشكيل “حكومة مهمة”، قبل موعد اجتماع الدّعم الذي يُخطط له الرئيس الفرنسي لحشد الدّعم المالي للبنان خلال الشهر الجاري، أو على أبعد تقدير قبل زيارة ماكرون الثالثة في كانون الأوّل المقبل خلال فترة عيد الميلاد لتفقّد القوّات الفرنسية العاملة في إطار قوات “اليونيفيل”. 

إذن فرنسا، كما تفيد المصادر المتابعة، ستُعاند لتحقيق إنجاز في لبنان وهي لن تسمح بوأد مبادرتها وتُشجع على تأليف حكومة ذات مصداقية، يتمتع وزراؤها بالنزاهة، تحظى برضى المجتمع الدولي، وتحصل على المساعدات المرصودة لانتشال لبنان من أزمته الحادّة والخطيرة. لكن قدرتها على تطويع المتاهة اللّبنانية البالغة التعقيد ستخضع للاختبار الكبير في الأيام المقبلة واللّبنانيون الذين يحترفون الانتظار ويجيدون الترقّب كاظمين لغيظهم ومعاناتهم.

 

رانيا برو

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى