حقوق

قانون الوساطة اللّبناني: نجاح ينتظر التفعيل

تُخزّن السجلات الورقية في أقلام المحاكم وخزائنها ، كبضائع يٌنتظرالتخلص من ثقلها “الأخلاقي” الذي يقع على عاتق القاضي، والتخلّص من عبء التعامل مع مشاكل الموكّل القانونية وحتى “الشخصية” أحياناً بالنسبة للمحامي.

ويبقى صاحب القضية سواء كان مدّعياً أو مدّعى عليه، الطرف الأكثر تضرّراً من بطء المحاكمات وتأجيل صدور الأحكام. وهذه الأزمة تفاقمت مؤخراً في لبنان.

وفي إطار العمل على تعزيز الوسائل البديلة لحلّ النزاعات بهدف تخفيف العبء عن القضاء، وتسهيل الإجراءات  وتسيير أمور المواطنين دون اللّجوء للمحاكمات الطويلة، وإجراءات التقاضي المعقدة أحياناً كثيرة،  جرى العمل منذ العام 2009 على مسودّة قانون مستوحى من التشريعات الأوروبية والفرنسية وذلك من قبل فريق من المحامين والقضاة من الوسطاء العاملين ضمن المركز المهني للوساطة، المرتبط بجامعة القديس يوسف.

القانون الذي قبع في أدراج مجلس النوّاب فترة تناهز العشر سنوات، أقرّ أخيراً في الجلسة التشريعية المنعقدة في 29\9\2018.

يساهم قانون الوساطة اللّبناني المقرّ في تعزيز العمل بين أطراف النزاع أي المدّعي والمدّعى عليه، إلى أن تنتهي كافة المسببات التي قد تقود إلى المحاكم، وتتميّز الوساطة عموماً بأنّها أقل تكلفة (يفترض ذلك بالمبدأ)، وأكثر سرعة. فالنظام الإجرائي القضائي في لبنان خصوصاً مؤخراً بات عرضة للتجاذبات المختلفة والتي غالبًا ما تؤخر الوصول إلى مرحلة النطق بالحكم، فعلى سبيل المثال قد يؤجل إضراب القضاة (أو إعتكافهم) النظر بالدعاوى المحالة أمام المحاكم لأشهر كما حصل في نهاية العام 2019، كذلك الجلسات التي باتت تؤجل بشكل تلقائي في ظلّ أزمة فيروس كورونا كسبب إضافي للتأخير والتباطؤ.

ويعود قانون الوساطة بالفائدة بشكل خاص على المطرودين تعسفًا من وظائفهم، إذ قد تمتد دعوى الصرف من العمل المقامة أمام مجلس العمل التحكيمي لمدّة ثلاث سنوات في الحالات العادية، وهنا تبرز أهمية “الوساطة” التي عمل على التسريع بإنهاء الأزمة بعد المصروف من جهة والمؤسسة من جهة مقابلة لتوفير الجهد والوقت والمال على الطرف المتضرّر.

وأشارت دراسة سابقة كانت قد أُعدّت عام 1994 لصالح وزارة العدل اللبنانية بدعم من البنك الدولي، إلى أن النظام اللبناني يعاني من “الإختناق القضائي” بحيث جاء فيها : “إن الاختناق القضائي يشكّل في الحقيقة مسألة تنعكس آثارها السيّئة على مصالح الأفراد والمؤسسات وحقوقها،  الأمر الذي يعيق نمو الاقتصاد الوطني ويساهم بصورة غير مباشرة في انحسار ازدهاره”.

وأسهبت الدراسة في تعداد المظاهر التي تتجلّى فيها أزمة “الاختناق القضائي”، علمًا أنّه وبعد مضي 26 سنة من تاريخ هذه الدراسة لم يزل القضاء يعاني من نفس التعقيدات التي يمكن اختزالها فيما يلي:

  • بطء في سير المحاكمات وبت النزاعات القضائية
  • تدنّي في كميّة إنتاج الأحكام
  • تراكم كمّي للدعاوى واختلال بين نسبة الدعاوى المفصولة والدعاوى المرفوعة

يأتي قانون الوساطة كخطوة موفقة في تنظيم الأمور تشريعياً بحيث يفتح باباً لتسهيل حلّ النزاعات بين الأطراف دون الاحتكام إلى الجهات الرسمية. من النزاع بين الأزواج والجيران وفي مكان العمل وبين الملّاك والمستأجرين والنزاع على الخدمات والسلع وغيرها، وفي هذا الإطار جاء في المادة الثانية من القانون “يمكن إجراء الوساطة في كافة أنواع المنازعات التي يجوز الصلح فيها بما لا يتعارض مع النظام العام والقوانين الإلزامية النافذة”.

“ويكون للمحكمة المختصة أن تصدر قراراً بإحالة النزاع إلى الوساطة في أي مرحلة من مراحل الدعوى، سواء باقتراح منها مقروناً بموافقة الأطراف أو بناء على طلبهم أو إنفاذاً لاتفاق وسيط”. (المادة الثالثة).

وفي سياق موازٍ، يمكن لطرفي النزاع استباق الأمور قبل الذهاب إلى المحاكم عبر اللّجوء إلى مركز الوساطة اللّبناني وهذا ما يُعرف في الأوساط القانونية بـ “الوساطة الرضائية”، إلّا أنّ المشرّع اللبناني غفل عن تنظيم هذه الوساطة، بحيث حصرت المادة الثالثة عملية إحالة النزاع إلى مركز الوساطة  بمرحلة المحكمة الناظرة بالنزاع.  دون ذكر إمكانية وجود لجوء مباشر للوساطة قبل وجود النزاع أمام المحاكم.

ومن المستغرب أيضاً المدّة التي حدّدها المشرع لإنهاء عملية الوساطة وهي ثلاثون يوماً من صدور قرار الإحالة. وهي فترة قصيرة نسبياً وغير مقنعة، عدا عن أنّها تشمل عملية تعيين الوسيط والاتفاق بين الفرقاء حوله، بالإضافة إلى جلسات المفاوضات والنقاشات للوصول إلى حلٍّ يرضي الطرفين.

ويكون اللّجوء للوساطة والعدول عنه اختيارياً بالنسبة للطرفين وذلك في أي وقت من مدّة الوساطة، وفي حال انتهاء المدّة دون صدور “تقرير خطي” عن الوسيط وإحالته أصولاً إلى المحكمة، تقوم المحكمة بإعادة قيده على جدول المرافعات.(المادة 19)

يؤخذ على قانون الوساطة أنّه بقي مقيّدا بالمحكمة منذ لحظة اللّجوء إليه حتى تاريخ صدور قرار الوسيط، فالمحكمة التي لا يمكن اللّجوء إلى الوسيط إلا عبرها، هي نفسها صاحبة الاختصاص لإعطاء القرار الصيغة التنفيذية أي دخوله حيّز التنفيذ، عبر مصادقة على القرار تصدر بالصيغة الرجائية.

والقرار الرجائي هو الصادر بدون خصومة في المسائل التي يوجب القانون إخضاعها لرقابة القضاء بالنظر إلى طبيعتها أو لصفة المستدعي. (المادة 594-أصول محاكمات مدني)

هنا نجد الطابع الرضائي (التوافقي) والودّي يطغى على عملية التفاوض والوصول إلى حلّ، الأمر الذي يساعد فيه قانون الوساطة اللّبناني”.

فلا يبقى الأثر الإيجابي للقانون مُقتصر على تخفيف العبء عن كاهل القضاء، بل يتعدّاه إلى إيجاد مساحة تلاقٍ تنعكس حسناته على المجتمع ككلّ وتساهم في تطوير بدائل حلّ النزاعات، فيصبح بذلك التشريع باباً لنشر ثقافة بديلة عن التخاصم أمام القضاء من جهة، وممارسة اجتماعية ككلّ من جهة أخرى.

 

حنان جواد

حنان جواد

محامية وكاتبة لبنانية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان والعدالة واستقلال القضاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى