ميديا وفنون

مسلسل “غربة” أناقة الماضي وقيم الضيعة بمواجهة تفلت الشهرة

حمل مسلسل “غربة” الذي يعرض على شاشة “LBCI” الكثير من معاني الجمال إلى جانب الترابط الدرامي، حكاية لم تكن كغيرها من روايات الحب والغرام و”عمى القلوب- كما يقال بالأمثال الشعبية”، فمنذ الحلقات الأولى لمسلسل “غربة” الذي نصته ماغي بقاعي وأخرجته ليليان بستاني وإنتاج أفكار برودكشن، استندت الكاتبة في سياق المسلسل إلى أحداث واقعية قد تحدث في كل المجتمعات، خصوصاً العربية منها، حيث يكون رجل بصفات مروان “كارلوس عازار” الممثل المحتال، ذكياً متماهياً في غرامه، مستغلاً لطيبة الفتاة أو لسذاجتها أو حتى لغرامها، يستعمل أساليب العشق غشاً واستغلالاً.

ما لفت المشاهد في مسلسل “غربة” تلك الأحداث والمشاهد العامة التي أسهبت بستاني بتصويرها، أحداث المسلسل بمعظمها وقعت في بيروت، تلك المدينة العريقة بتراثها العمراني والثقافي، خصوصاً في فترة الخمسينات من القرن الماضي، حيث جمعت البيئة القروية الكثير من المحافظة والرقي الإنساني، والبيئة البيروتية مع محافظتها استقطبت الكثير من الثقافة والانفتاح العلمي.

حلا

كما جاء عرض المسلسل الذي أظهر فن العمارة والديكور لتلك المنازل القديمة والهندسة العمرانية الفنية الجميلة، في وقت شهدت العاصمة اللّبنانية أقوى وأصعب تدمير لتلك البنية، حيث جاء انفجار المرفأ النووي على معظم الصورة التراثية لمنطقة عرفت بجمال فن العمارة فيها، وصنّفت أبنيتها تراثية. فتتبع المشاهد تلك الصور من خلال بيوت أبطالها المزدانة بروعة الماضي الحالم وجمال الطبيعة التي طالما أرادوا أن يتغنوا بها.

ليليان بستاني إلى جانب فرح بيطار ووسام حنا

إلّا أن المخرجة ليليان بستاني قالت لـ “أحوال” إنّها صوّرت العمل في قرى متعددة في البترون وجبيل والشمال، وحاولت أن تعطي صورة متقاربة عن مدينة بيروت في العديد من اللّقطات، ولم تختر التصوير في أحياء بيروت القديمة لأسباب تقنية، فالعديد منها اندمج فيه البناء العصري، أو جُدِّد بطريقة حديثة، كما أنّ إمكانية تصوير مسلسل بضخامة إنتاج “غربة” يحتاج إلى مساحة حرّة ومريحة للتحرك، فكانت قرى خارج بيروت أكثر وفرة، خصوصاً أنّ الهندسة العمرانية في تلك الحقبة متشابهة ومترابطة.

حلا العاشقة ومروان

وليس هذا فحسب بل جذب النساء تلك الأزياء التي اتسمت بالأناقة ورقي الشكل العام، حيث اتّقن ماجد بو طانيوس تصميم الأزياء بأدق تفاصيل تلك الحقبة الزمنية، ما دفعني لأبحث في صور أمّي وصديقاتها وقريباتها لأستذكر جمال الأناقة في تلك المرحلة، حيث لا تخرج المرأة ما لم تكن متأنقة جميلة، تنسّق فستانها مع قبعتها وحقيبتها مع حذائها المرتب. وهكذا استطاع أن يحمل المشاهد والمشاهدة المرأة بخاصة إلى تلك المرحلة، وقد يعيد معه موضة تلك الفترة من القبعات والأزياء.

أمّا أحداث “غربة” فهي فعلاً تشبه عنوان المسلسل، إذ يعيش العديد من أبطاله غربة إمّا نفسية أو داخلية وحتى غربة وطنية، حيث تمكنت الكاتبة ماغي بقاعي من تقديم شخصيات عملها على أنّها واقعية وحقيقية، متوافرة في العديد من المجتمعات خصوصاً اللّبنانية حيث يعيش الإنسان صراع ما بين الحرية بمفهومها العام، والتي قد يراها البعض حرية جسد، أو حرية تصرف بعيداً عن تقاليد وعادات مجتمع تلك الحقبة المتصارعة بين التحفظ والتشدّد المجتمعي، والترابط العائلي.

حلا بين مروان ورامي

وعن هذه الشخصيات تقول المخرجة إن الكاتبة لم تصفها بالقصة الحقيقية لحالة ما أو أحداث حصلت في حقبة الخمسينات من القرن الماضي، بل هي قصص واقعية قد تحدث في أي زمن وأي مكان، وهي شخصيات نعيش معها وقد نصادفها في حياتنا، لهذا تمكّنا من تقديمها على الشاشة وأحبّها الناس لقربها من شخصيات عرفوها أو عايشوها.

وجاء الكاستينغ ليساهم في إضافة مصداقية على القصة، حيث أثبت كارلوس عازار كعادته احترافيته العالية في تقديم “مروان” ذاك الشخص الأناني الوصولي الذي يتفنّن باستغلال المرأة جسدياً ومادياً ونفسياً، أمّا فرح بيطار والتي تنال للمرّة الأولى بطولة أولى في الدراما التلفزيونية، فقد حملت “حلا” ابنة المختار “أسعد رشدان” إلى عوالم الرقة والأنوثة، وجعلت من تلك المنصاعة عشقاً إمرأة تسعى لتكون مستقلة وقوية وتكافح بالحب والإرادة، فيما تمكن وسام حنا من أن يحافظ على صورة “رامي” الرسّام المهذب برقيه، وقدّم الرومانسية بأعلى درجاتها حتى مع من لا يحب، فيما أبدع سامي أبو حمدان في أداء الدور الإنساني لشخصية المختار الشاب نديم الذي يحمل راية العدالة ولا يرث تقاليد قد تخسره أخته بعدما خسر زوجته “يمنى بوحنا” في حادث أليم أدّى إلى وفاتها وشلله.

أمّا سينتيا زيتون بدور رنا الأرملة الجميلة التي يسكت مجتمعها عن علاقتها بالرسّام من دون زواج، حتى هي ترفض هذه الصفة لغيرها لتحافظ على حبيبها الرسّام، وهي لا تقل شأناً بطباعتها الشريرة عن الممثل المسرحي مروان في تلفيق المؤامرة للفتاة البسيطة حلا، حيث لا يسمح لها بأن تسعى لتستقر وتتخلى عن خطأها السابق حيث عاشت مع مروان من دون زواج، إلّا أنّ هذا التصرف يكلّفها راحة بالها ولن يرحمها المجتمع، فيما تسعى عائلتها لإعادة لمّ الشمل متحدّيين التقاليد من أجل لحمة العائلة. واللّائحة تطول.

المختار الأب

استطاع “غربة” أن يعطي لكل دور نجومية ويطرح التساؤلات عن سبب وجودها في فلك العمل، حتى المرأة الصامتة المجنونة زوجة مروان، تدفع الجميع للبحث عن سبب جنونها ليصلوا إلى النهاية المترقبة.

“غربة” مسلسل درامي يحمل في طياته تناقضات مجتمعية، ربطت بين الحاضر والماضي من خلال طروحات تاريخية، توثق حقبة كانت متّصفة باللّحمة الاجتماعية، ومعروفة بالتقاليد والعادات التي تسعى لتكون محافظة، وتقع بين هوة التطور والعلم والانفتاح، وطلب المحافظة على كل التقاليد العائلية التي لا تزال موجودة، فالأب يريد الأفضل لابنته والأخ يحلم بالأفضل لها، وهي الثائرة المتمردة، إن أخطأت تحاسب وإن نجحت كما يريدون تكافأ. والبارز أنّ حلا هي محور القصة بالتمرد والعاطفة، يخذلها حب الممثل المسرحي مروان الذي يجذبها برومنسيته وكلامه اللّبق المعتاد عليه في التمثيل، يدفعها لتعاشره من دون زواج وتقوم بأعمال لا تقنعها إلّا لترضيه، ولا يرضى. ومعها يدخل العمل إلى المجتمع القروي وابتعاده بعض الشيء عن المجتمع المدني في بيروت، إلّا أنّ التقاليد واحدة والبيئة واحدة على رغم تطور الزمن واختلاف الثقافات.

 

هناء حاج

 

هناء حاج

كاتبة وصحافية لبنانية، درست الصحافة في كلية الاعلام والعلوم السياسية في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. عملت في الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة في العديد من المؤسسات اللبنانية والعربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى