مجتمع
أخر الأخبار

بعد شهرين على انفجار مرفأ بيروت الكرنتينا تَستصرِخ الضمائر والهِمَم

“بِسرعة شوَي… بَدّي يوصَل طَيِّب عالمستشفى… أسرَع شْوَي… يَلّا”… كلمات خَرقَت الهدوء المُخَيّم على منطقة الكرنتينا في صبيحَة اليوم الثاني من شهر تشرين الأول 2020…

“بَعد ما وِصِل الدكتور؟” وعندما تجيبه الممرضة بالنفي، يصرخ: “خْلَقولي ياه من تحت الأرض… لازم نخَلِّص الصَبي من الموت”.

 

إنه صوت حسين مسلّم، رئيس دائرة التمريض في مستشفى الكرنتينا، الذي كان يقوم باتصالات سريعة وتحركات لا تهدأ بُغية إعادة هذا الطفل إلى الحياة من جديد، وعلى وجهه الكالِح ترتسِم إشارات اليأس والغضب في آن واحد، خصوصاً أنه لم يعد يسمع صراخ ذلك الطفل الذي أربَك القسم التمريضي في المستشفى…

وبعد أن تمّت السيطرة على الموضوع، مَسح حسين مسلّم العرق المتصَبّب على جبينه ووجهه، وجلس على إحدى الكراسي وسط الدمار الذي ما زال يلفّ المكان… نظرَ إلي للحظات، ثم ابتسم وقال: “عن شو كِنت بَدّك تسألني؟” فقلت له بتحَبّب: “ألله يقوّيك… يا ريت بتخبّرني عن المستشفى بعد انفجار مرفأ بيروت”. فعَدّل جَلسته، وقال: “عندما دوّى انفجار مرفأ بيروت كنتُ على بُعد 5 كلم تقريباً من مستشفى الكرنتينا، فتوجّهتُ نحوه بكلّ ما أوتيتُ من سرعة، لكنّ تَوَقّف السير على الطرقات حَتّم عليّ أن أوقِف سيّارتي في منتصف الطريق، وأمشي وكلّي أمل بأن أجد أحياء هنا… وما ان وصلت إلى أمام المدخل حتى وجدت العديد من المرضى قد أصبحوا خارج المستشفى المدمّر كليّاً، وتحَقّقت من أنّ إصاباتهم كانت بالغة في مختلف أنحاء أجسامهم… كل محاولاتي للاتصال بالصليب الأحمر اللّبناني باءت بالفشل لأنّ خطوط الاتصال كانت مقطوعة نتيجة عصف الانفجار… كان حلمي أن أنقل 5 أطفال خُدّج إلى مكان آمن، فاستطاعت شاحنة للجيش اللّبناني فِعل ذلك، ما أراح أعصابي بعض الشيء…”.

 

Photo by: Jawad Mourtada
  • كيف استطعتم تشغيل المستشفى بهذه السرعة مع أنّ كل شيء تدَمّر هنا؟!

“كانت  needs lebanon أولى الجمعيات التي ساعدت في إعادة ترميم هذا المستشفى، فتبرّعت بإعادة ترميم العيادات والصيدلية وتسكير مداخل المستشفى من كل الاتجاهات، كما تبرّعت الحكومة السويسرية بإعادة إعمار قسم الطوارىء وقسم الأطفال…”.

 

وعندما تلفتُ نظره إلى أنّ “الشغل” يسير بطريقة بطيئة نوعاً ما، تراه يهزّ برأسه ويقول: “لقد وُضعَت خطة للترميم وهي تنفّذ مرحليّاً، لكنّها تأخذ وقتاً لأنّنا نرمّم قسماً إثر قسم، علماً أنّ إمكانياتنا التمريضية تتحسن شيئاً فشيئاً بفضل وزارة الصحة اللّبنانية والجمعيات المساعِدة. وإنني إذ أوجّه الشكر العميق إلى كل هذه الجمعيات، آمل أن يعود هذا المستشفى إلى العمل أفضل ممّا كان عليه سابقاً…”.

 

Photo by: Jawad Mourtada

حسين مسلم في حركة لا تهدأ

وبينما أنت تمشي وسط الدمار الذي يحيط بك من كل جانب، يخرق سَمعَك أصوات أولاد يغنّون، فتلتفت… فترى خيمة تحتمي بظلال أشجار وارفة، وصبية يركضون حيناً في وسطها، ويجلسون حيناً آخر ليستمعوا إلى شَرح المعلّمة… تقترب منهم مُلقياً التحية، فيُبادلونك بالمِثل… فتاة صغيرة تُسرِع نحوك وتقول لك بكل براءة: “بدّك تصوّرني مع رفقاتي؟”، فتجيبها بعطف: “تكرَم عينِك… بَس يا ريت بتوقفي بَيناتُن تا تطلَع الصورة حلوة”. فتمتثِل لِما تقوله… وبعد أن يأخذ المصوّر لقطات ساحرة من كاميرته المُحترفة، تقترب منك المعلمة بهيّة أمّونة، قائدة فريق المعالجة النفسية في مؤسسة عامل، وتقول: “انشالله عَجَبك مشروعنا…”. فتجيب: “فكرة كتير مُثمرة… أيمتى بَلّشتو؟”. فتوضِح: “مَرّت علينا 5 أسابيع في هذه الخيمة ونحن نعالج الأولاد نفسياً كي يَتناسوا انفجار مرفأ بيروت، علماً أننا نلتزم جميع المعايير الصحية للوقاية من فيروس كورونا، لذلك إنّ المجموعة التي نعتني بها مؤلفة من 6 أولاد فقط”.

وفيما الأولاد يتلقّون الإرشادات ويلعبون ويغنّون، تلاحظ أنّ لهجاتهم غير لبنانية، فتسألها عن السبب، فتجيب مع ابتسامة: “إنّ عدد الأطفال اللّبنانيين في هذه الدورة قليل جداً، والغالبية هي من الجنسية السورية، لكنّنا سنقوم بدورة ثانية في هذه المنطقة لأنّ الحاجة مُلحّة لذلك خصوصاً أنّ عدد الأطفال كبير… علماً أنّ هذا المشروع يجري بالتعاون مع plan international، وهي جمعية لحماية الطفل”.

Photo by: Jawad Mourtada

يُعالجون نفسياً في هذه الخيمة

غير بعيد عن هذه الخيمة التَثقيفية يُطالِعك مركز التدرّن الرئوي (السل)، تمشي نحوه فتلاحظ أنّ البنايات التي تحيط به ما زالت غير صالحة للسكن أو العمل… تدخل إلى باحته فتستقبلك الدكتورة هيام يعقوب، وهي مديرة البرنامج الوطني لمكافحة السِلّ، تتحقّق من الأسى المُرتسِم داخل عينيها أنّ الأمور “مش ظابطَة”، وتوضِح لك بصوتها الكئيب: “بعد الانفجار تدمّرت غرف هذا المركز كليّاً، إلّا أن حيطانه بقيت شامخة لكنّ العمل فيه توقّف، ما يعني أنّ برنامجنا الذي ينحصر في تشخيص وعلاج مرضى السل في لبنان توقّف… في هذا الوقت استطعنا أن نجد مراكز بديلة في صيدا وزحلة وطرابلس، وبدأنا بتحويل مرضانا إليها لكي يتابعوا علاجاتهم وتشخيصاتهم، علماً أنّ هذا البرنامج سوف ينتقل إلى مركز تابع لبلدية بيروت لأنّها قدّمت لنا مركزاً مؤقتاً في محلّة زقاق البلاط نقوم بتجهيزه لننقل كل معداتنا إليه، وستدفع المنظمة الدولية للهجرة مالاً لتأهيله بغية استقبال المرضى”.

Photo by: Jawad Mourtada

الدمار يخَيّم في غرف المركز

تتجوّل مع الدكتورة هيام في غرف المركز، فتُصدم لأنّها مدمّرة كلياً، لا صيدلية، لا أسرّة، لا تجهيزات، ولا حتى بَشَر… فقط هناك خَربَشة لبعض الفئران التي “تَتمختَر” في أرجائه غير عابئة بالدمار الذي أصابه… وأمام هول الصدمة، تسألها: بماذا ساعدتكم الدولة اللّبنانية والمنظمات الإنسانية بعد شهرين من انفجار مرفأ بيروت؟! فتجيبك بأسى: “الدولة تنسّق مع منظماتٍ للأمم المتحدة لمساعدتنا في إعادة ترميم المركز من خلال ما يسمّى منظمات الأمم المتحدة للإسكان. حالياً، نحن ننسِّق مع الدكتورة جوزيت نجّار، ممثلة merieux fondation في لبنان، والتي أبدت رغبة بدعمنا في تجهيز هذا المركز في المستقبل من ناحية المعدات والتجهيزات.

وبما أنّ ملفات المرضى لم تحرق جرّاء الانفجار، إستطاع فريق عمل متخصّص أن يوصِل الأدوية إلى منازلهم كي لا ينقطع علاجهم ما يشكّل خطورة على حياتهم، كما وزّعنا أدوية على مرضانا في المستشفيات التي لم تتأذّ من الانفجار وعلى مراكزنا خارج مدينة بيروت، أمّا بقيّة الأدوية التي سنستعملها فقد نقلناها إلى مستشفى الحريري الذي قدّم لنا غرفة على شكل مستودع…”.

 

Photo by: Jawad Mourtada

 د.هيام يعقوب أمام مركز التدرّن الرئوي المدمّر

تهرب من دمار هذا المركز وأنت مُدّمّر نفسياً وجسدياً… تستنِد الى جذع أوّل شجرة تصادفها خارجه… تغمض عينيك لعلّك تحلم بأمكنة عابقة بالهَناءة والحياة… لكنّ الواقع يأبى عليك أن تعيش تلك الهُنيهات الحالمات، فها هو صوت مزعج يَزعَط الى جانبِك ويُعيدك، رغماً عنك، الى حيث كنت: “قوم ساعِدنا بتجميع الحديد… قوم… تحرّك ليش بعدَك نايم !!”.

طوني طراد, جواد مرتضى

طوني طراد

كاتب وصحافي لبناني. حائز على ماجستير في اللغة العربية من الجامعة اللبنانية. صدر له عدة دراسات سياسية وأدبية ابرزها كتاب "صورة المرأة في شعر ميشال طراد".

جواد مرتضى

مصوّر لبناني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى