منوعات

بعد الحرب الأهليّة.. بالصّمت يستمرّ الألم!

تربط الشعب اللّبناني علاقة متينة بالوقت، يظنّ أنّ الأخير حليفه الأوّل بعدما خذله الجميع. فبعد كلّ مرحلة أو أزمة، يبقى اللّبنانيون متمسّكين بالوقت ليشفي جراحهم، دون علمٍ أنّه مخدّرٌ فقط، ومع كلّ جرحٍ جديد تتفتّح الجراح الأخرى.

يرفض الكثير من أبناء الأجيال السّابقة الحديث عن الحرب الأهليّة. يعتقدون أن صمتهم يُسكت أصوات الرّصاص والمدافع الّتي زُرعت في أذانهم لـ15 عامًا. لكنّ ضبابية المشهد السّياسيّ في لبنان، ومشاهد المناكفات هنا وهناك، وإن كانت مضبوطة إلى حدّ ما، تدلّ على غرق المجتمع اللّبناني بصمت أجداده وقلّة معرفة أبنائه.

أثبت الوقت فشله في شفاء قسمٍ كبير من النّاس، وعَلَت أمامه أصواتٌ تُنذر بالانجرار إلى المحظور، إن لم نتحدّث عن الحرب لمعالجة جذور المشكلة. لكن، ما هي الفائدة من الحديث عن الحرب الأهليّة؟ هل الحديث فعلًا “نبشًا للقبور” أم معالجة اجتماعية بنّاءة وواسعة النّطاق؟

النّموذج الإسبانيّ

تُعدّ التّجربة الإسبانيّة إحدى التجارب النّاجحة في تخطّي المجتمعات لمخلّفات الحرب الأهليّة.
وقعت الحرب الإسبانية عام 1936 وامتدّت لثلاث سنوات، لكنّ الحكم الدّكتاتوريّ الّذي دام حتّى عام 1975 بقيادة الجنرال فرانكو، والّذي كان طرفًا في الحرب، أثقل المجتمع الإسبانيّ وحصد الكثير من الأرواح. ومنذ عام 1975 حتّى اليوم، بدأ الانتقال السّلميّ نحو الحكم الدّيمقراطي وحلّ أصول النّزاع.

المتخصّصة في علم الضحايا والسّياسات الجنائيّة في كلّية الحقوق، والباحثة في علم الجريمة في جامعة بلاد الباسك في إسبانيا، البروفيسورة “غيما فارونا مارتينيز”، تقول إنّه “على المجتمعات الحديث عن الحرب الأهليّة، فما تعلّمناه في إسبانيا أنّ الماضي يرسم الحاضر والمستقبل. لا يمكن أن نترك الأمور على الهامش، لا يمكننا الإيمان بأنّ الصّمت يحلّ الأمور. إن لم نتحدّث عن الماضي، ولم نقم بأيّ مبادرات وتحرّكات في المجتمع، الألم سيستمر، وهذا لا يعني بالضّرورة نشوب حرب أهليّة جديدة، ولكنّ الصّراعات الاجتماعية لن تهدأ، وسيستمر تلاعب الأحزاب السّياسية بالنّاس”.

مارتينيز تؤكّد أنّ منع نشوب حربٍ جديدة، يوجب الجميع معرفة ما حصل في السابق، لافتة إلى أن هناك أهميّة كبرى للنّقاش بين أطراف النّزاع، إلى جانب تقدير الضحايا الّتي سقطت، “وإلّا سيشعر المتضرّرون بالرّغبة بالانتقام وبأنّهم مهددّون، وسيكون التّلاعب بهم سهلًا”، بحسب قولها.

قائد في الحرب والسّلم؟

ترى البروفيسورة مارتينيز، أنّ القائد في الحرب يستطيع أن يكون قائدًا في السّلم، ولكنّ ذلك قد ينعكس سلبًا على بعض الفئات التي قد يكون وصولهم إلى الحكم في أيّام السّلم مثيرًا للجدل، خصوصًا إذا كانوا قد أمروا بالقتل في لحظةٍ ما، وبالتالي فلن يرى العديد من المتضرّرين وأهالي الضّحايا أي شرعية لهؤلاء ليكونوا في السلطة.

وتتابع مارتينيز بالإشارة إلى أنّ هناك الكثير من الأمثلة في هذا السّياق، والأمر معقول، حيث أنّه من البديهيّ التّفكير أنّ وجود هؤلاء الأشخاص سيسبّب وجعًا ومعاناةً كبيرين لعائلات الضحايا، حتّى لو كان الشّخص نفسه يرفض العنف الآن، لكنه قد خلّف وراءه عددًا من الضحايا يومًا ما. وتضيف: “يعتقد أهالي الضحايا أنّ باستطاعة الشّخص أن يكون في السلطة، لكن على الأقل ليس في الصّفوف الأماميّة، ممّا سيذكّرهم بالقتل والمجازر”.

أمّا في سبل العمل لتحقيق هذه الأهداف، تعتبر مارتينيز أن الفنّ قد يكون من الطّرق الأنجح، خصوصًا إن كانت هذه الأعمال الفنّيّة من إنتاج جيل الشّباب، فهكذا يكون العمل ربطًا بين الأجيال، لتختم بالقول: “الفنّ أساسيّ لنشر الفكر الناقد، وربّما التعاطف أيضًا، لأنّه بإمكانك تخيّل نفسك مكان الآخر عندما مشاهدة المسرح أو أي فيلم سينمائي، وهذا الأمر نجح في إسبانيا على الأقلّ”.

جرعة أمل

رغم الوضع الاجتماعيّ الصّعب ومخاوف البعض من نشوب حرب أهليّة لبنانيّة جديدة، تعمل بعض المنظّمات المدنيّة اللّبنانيّة على العديد من البرامج الّتي تُعطي جرعة من الأمل خلال المشهد القاتم. ومثال على ذلك، تعمل “الهيئة اللّبنانيّة للتّاريخ”، بالتعاون مع “منتدى خدمة السّلامة المدنيّة”، على مشروع يحمل اسم “من التّاريخ الشّفهيّ الحديث نحو فهم أفضل للماضي” في تأريخٍ شفهيّ للحرب الأهليّة، مُشركين معهم طلابًا من عدّة ثانويات رسميّة في مناطق كانت حسّاسة خلال الحرب.

رئيسة “الهيئة اللّبنانيّة للتّاريخ”، نايلة حمادة، تقول لـ”أحوال” إنّ “المشروع بدأ منذ سنتين بهدف تثقيف الطّلّاب حول الحرب الأهليّة، في وقت لم تنجح الدّولة بإصدار منهج تاريخ لمرحلة ما بعد الحرب، وبالتّالي لا يعلم أبناؤنا إلّا القليل من هنا وهناك، لذا فالهدف اليوم هو أن نخلق محادثة بين الأجيال حول الحرب، لأنّ الأهل أصلًا لا يخبرون أولادهم الكثير عنها. وكأنّ الّذي عاش الحرب قرّر الصمت”.

وفي السياق، أكّدت حمادة أنّ المشروع سعى إلى حثّ الطّلاب على البحث عن المعلومات عبر مقابلات مع ناسٍ عاشوا الحرب ليكونوا رواة لتلك المرحلة، مشيرة إلى أنّ التجربة كانت مميّزة للطلّاب بالفعل، حيث عملوا على مواضيع مختلفة، وأجروا مقابلات، وشاركوها في معرضٍ تفاعليّ نُظّم في الجامعة الأمريكية في بيروت، وسمح للزائرين بتذكّر الحرب الأهليّة، الذين أيضًا شعروا بمُتعةٍ في المعرض، حيث قال بعضهم: “شعرت كأنّني أنا أتكلّم، لم أحظَ بفرصةٍ للحديث وأريد أن أتحدّث عن الموضوع”.

من جهتها، وجدت إحدى الطالبات المشاركات، فيفيان صالحة، في هذا المشروع وسيلةً مفيدة لزيادة معرفتها بتاريخ لبنان الحديث، قائلة: “اكتسبت معلومات وقصصًا كثيرة عن الحرب لم أعرفها من قبل. تغيّرت نظرتي خلال سنتين من العمل، وفهمت أكثر مصاعب ومآسي اللّبنانيين خلالها”.

معالجةٌ عبر الفنّ

عمل الطّلاب على تذكّر الحرب الأهليّة وفهم التّاريخ عبر فنون متعدّدة، كالرّسم التّعبيري وفنّ الخرائط، حيث وجدت رئيسة الهيئة أنّ هناك نقصًا في التربية الفنيّة عند الطّلاب، لذا “كان الهدف أن ننقل المعرفة التّاريخيّة عبر الفنون وإيصال رسالة عبرها”، بحسب قول حمادة.

وتتابع: “لم تواجه هذه المبادرة أيّة عراقيل من قِبل وزارة التّربية، وكانت الأخيرة متعاونة جدًّا رغم الإمكانات المحدودة، إلّا أنّ الخوف من نبش الأحقاد موجود، إذ كان هناك تخوّف من أن نفتح جراحًا قديمة أو أن نؤدّي إلى نزاعات جديدة وأن يعلو صوت الأهالي، لكنّ الغريب أنّنا وجدنا العكس تمامًا. وجدنا في هذه التّجربة أنّ هناك وعيًا لدى جيل الحرب في حماية الأجيال الحاليّة ممّا عاشوه سابقًا، وربّما حماية زائدة عبر إخفاء الحقائق عنهم”.

هذا وتعمل الهيئة الآن، بالتعاون مع منظمات من سبع دول من العالم، على عرض حقبات عدّة من تاريخ كلّ دولة عبر الفنّ، بالإضافة إلى مشروع مع برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ لتدريب المعلّمين على كيفيّة الحديث عن الماضي وربطه بالحاضر، وكيفية تدريب الطّلاب على النقاش للحديث عن الماضي وعدم طمسه لبناء مجتمعٍ متماسك.

وركّزت حمادة في حديثها على الدّور الأساسيّ للدّولة في صناعة المناهج التّعليميّة الحديثة، ومنها التّاريخ، وأكّدت على الدّور السّلبي للأحزاب السّياسيّة في هذا المجال، حيث قالت: “كان للأحزاب السّياسية الكلمة في تشكيل اللّجان ووضع ضغوطاتٍ عليها، ما حال دون عملها بشكلٍ جيّد. نتمنّى أن يتمّ تشكيل لجنة من المختصّين دون ضغط القوى السّياسيّة”.

ومع توقّف الوقت عند بعض أصحاب القرار في القرن الماضي، يبقى الأمل بخطواتٍ اجتماعيّةٍ ترسم الصورة الحقيقية لمجتمعنا. كيف تقوم الأوطان إن لم يتصالح المجتمع مع جراح ماضيه؟ عندها فقط، تصلح مقولة “العيش المشترك”.

شادي ملاك

شادي ملاك

صحافي ومحرر في مواقع الكترونية. حائز على إجازة في فنون التواصل والصحافة من الجامعة الامريكية للعلوم والتكنولوجيا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى