منوعات

العولمة والميديا المعاصرة.. نحو رؤية أكثر حداثة في إنتاج الفكر

تعتبر العولمة واحدة من الظواهر التاريخية التي اتخذت بعداً تراكمياً في مسار تطورها. فالعولمة، بعيداً عن الإرتباطات السياسية والأيديولوجية، هي ظاهرة إنسانية بدأت منذ أن بدأ الإنسان بالتحرك والتنقل بين أجزاء العالم المختلفة، سواء بهدف التجارة أم الهجرة، والتي كان ينتج عنها بطبيعة الحال انتقال العادات والمنتجات والأفكار. هذه الظاهرة التي كانت تتطور ببطء في العهود القديمة، بدأت وتيرتها بالتسارع في العصور الحديثة مع حركات الكشوف الجغرافية الأوروبية والثورة الصناعية، ثم خطت خطوتها الكبرى في الوقت الراهن مع الثورة المميزة في قوى الإنتاج ممثلةً بالثورة التكنولوجية والمعلوماتية ووسائل الإتصال.

هذه الثورة المميزة في قوى الإنتاج كان لها أبلغ الأثر على الأنماط التقليدية للأيديولوجيات المبرمجة والأفكار عموماً، ذلك أن تصوراتها المبسطة عن البنى التحتية للمجتمع المتمثلة بقاعدته الاقتصادية الإنتاجية وبنيته الفوقية التي يعبر عنها النشاط الفكري والمنتجات الثقافية (أنماط الوعي والعلاقات السياسية والحقوقية) قد تجاوزها الزمن، لأنها بكل بساطة تطمس الحدود الفاصلة بينهما، فالطبيعة الجديدة لقوى الإنتاج تربط مباشرةً بين ما كان يسمى البنى التحتية والبنى الفوقية دون وساطة “الوعي الطبقي”، فهي بالتالي تلغي الحواجز والمسافات، وتحضر لصدمة وعي جديدة قادمة حتماً.

ومع هذه الثورة سقطت الآليات القديمة التي كانت تتفرد بتشكيل أو إعادة تشكيل الوعي الجمعي أو حتى الفردي. فالعولمة الجارية في ظل هذه الثورة الحاسوبية والثورة في وسائل الإتصال، وإن يأخذ عليها البعض اقتحامها لمجالات الوعي والثقافة، وعولمة أوقات الفراغ وأنماط الإستهلاك محاوِلةً إظهار كل ذلك على أنه المنقذ الحديث من الضلال، وتقديمها للواقع في ذاته على أنه البديل لليمين واليسار، وأنه الكفيل بتذويب الثقافات المحلية بهدف تأسيس نوع من الإمبريالية الثقافية التي تفرضها حاجات المراكز الصناعية المتطورة، إلا أنها بالمقابل باتت أمراً واقعاً لا يمكن التفلت منه. فعولمة الكلمة والصوت والصورة المتمثلة بالميديا الحديثة المتفلتة من الرقابة السلطوية أو المجتمعية، على سبيل المثال، بتأثيرها العميق في تفكير الإنسان المعاصر ووجدانه وسلوكه وقيمه، أصبح لها اليوم اليد الطولى في التأثير على عقول الأفراد وعلى وعيهم الجمعي سواء من خلال استمالة الجماهير إلى قضية ما واللعب على وتر العواطف والمشاعر، أو عبر تشكيل وإعادة تشكيل المنظومات القيمية لتلك الجماهير بما في ذلك مخزونها الثقافي ونظرتها تجاه الوجود والحياة.

المستقبل مقلق بنظر البعض، ادعاءاتهم عن المخاطر المترتبة عن هذه الثورة التي التفت على الأيديولوجيات الكلاسيكية قد تبدو محقة بمكان ما، وهذا أمر بديهي على أية حال، فكل تطور يحمل معه ايجابياته وسلبياته. ولكن، ألا يتعين على هؤلاء الذين يحاولون نكران الواقع وتجاهله الإقرار بأن الأيديولوجيات التقليدية، على مر التاريخ وعلى اختلاف توجهاتها، لطالما قامت بتسخير البروباغاندا الإعلامية لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تصب في مصلحة استمرارية تسيدها فكرياً وبالتالي بقائها في السلطة والحكم؟ وإذا كانت الميديا المعاصرة ممثلةً بوسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الإعلام البديل تُتهم بأنها تصنع الوهم وتبعثر الحقيقة بغرض إفساد الوعي الجمعي وتشويهه، وأنها صنيعة المؤامرة وصانعتها، وأنها تدعي امتلاك الحقيقة التي تقدمها ضمن وجبات جاهزة معلبة عوضاً عن تشخيص القضايا ومواجهتها، وأنها تكرس جيوشها الإلكترونية لتسويق منهج عبادة الفرد وتقديس صورة الزعيم، فإنه يكفي استحضار التجربة النازية ليتكشف لنا واحدة من أكثر الأمثلة تجسيداً لاستخدام البروباغندا الإعلامية في تزييف الوعي الجمعي وتغييب عقل الإنسان. وإذا كانت النازية بمثابة النموذج التطبيقي الأكثر تأبياً على القبول بالنظر إلى أسلوبها الفاقع في أدلجة الجماهير وتطويعها، فإن الأيديولوجيات التقليدية الأخرى لا تقل شأناً عنها، ولو استخدمت في عملية الإخضاع أساليب ملتوية وأكثر نعومة.

المسألة إذاً ليست في نوعية هذه الميديا المعاصرة وأساليبها الحديثة، ولو أن طبيعتها الجديدة وغير المسبوقة تستحق التوقف عندها مطولاً، ولكن هذا بحث آخر، وإنما تكمن القضية في قناعتنا نحن بأنها مجرد وسيلة تؤدي أدواراً فكرية واجتماعية وثقافية ستحمل معها بالضرورة جوانب مضيئة وأخرى مظلمة. ولعل خروج الجماهير في حراك شعبي بدون قيادات أو زعامات تقليدية، ودون أية حاجة إلى أيديولوجيا كلاسيكية تنظر لأدبيات الثورة، قد مثل الجانب المضيء من الوعي الجمعي الذي أسهم في تشكيله الإعلام الرقمي. وهنا بالضبط يكمن دور الميديا المعاصرة التي يجب أن تأخذ على عاتقها مسؤولية إعادة الإعتبار لمجهود فكري وثقافي غير محكوم بالزائل والمتسرع، وإنما بالرؤية المستنيرة اللازمة لإنتاج المعارف ولسد النواقص التي تعتري منظومتنا الفكرية والثقافية، مع الإقرار بأهمية دور النظرية في توجيه الممارسة وبمحورية الأيديولوجيا في تشكيل الوعي الجمعي، والتي بالمناسبة أثبتت أن دورها لم ينته في عصر العولمة، وإن تغير شكلاً ومضموناً.

علاء جوني

كاتب وباحث لبناني. حائز على شهادة الدكتوراه من الجامعة اللبنانية في عام 2020 ، موظف في وزارة المالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى