مجتمع

إرتفاع أسعار الخبز جعلت التنّور والصّاج في الضنّية يستعيدان مجدهما

أُصيب م. ح. (وهو موظّف طلب عدم ذكر إسمه) بالذّهول وهو يحسب كم سيصرف من راتبه الذي يزيد قليلاً على 3 ملايين ليرة لبنانية من أجل شراء الخُبز لإطعام عائلته المكوّنة من 8 أفراد، بمن فيهم هو وزوجته، بعدما تبيّن له أنّه يحتاج إلى ما لا يقل عن أربع ربطات خبز يومياً، على أقل تقدير، خصوصاً بعدما تقلّص حجم الربطة وعدد أرغفتها، سعرها يبلغ 40 ألف ليرة بعدما وصل سعر الربطة الواحدة إلى 10 آلاف ليرة، أيّ أنّه يحتاج إلى مليون ومئتي ألف ليرة شهرياً لشراء الخبز فقط.

هذه الحسبة البسيطة جعلت م. ح. يَلمس حجم الأزمة التي يعيشها هو وسواه من بقية الموظّفين الذين بقيت رواتبهم كما هي، برغم تصاعد أسعار كلّ السّلع بأشكال جنونية، وأنّ مدخوله لا يكفيه الحدّ الأدنى من الأكل والشّرب، عدا عن بقية المصاريف الضرورية من تأمين محروقات لسيّارته وللتدفئة وبدل إشتراك الكهرباء والأدوية، إلى جانب مصاريف أخرى.

إزاء هذا الوضع المتدهور، لم يتردّد م. ح. في إزالة الغبار عن تنّور موجود بجوار منزله، كانت والدته المتوفاة تخبز عليه ما تحتاجه عائلتها، وتجديده بعد الإستعانة بحجارة وطين أبيض خلطه بالقشّ كي يصبح قادراً على تحمّل الحرارة، بشكل يجعله جاهزاً لتحضير الخبز عليه هو وأقرباء وجيران له، بعدما أمّنوا ما يحتاجون إليه من حطب من حقول وبساتين يملكونها في بلدتهم الواقعة في جرود قضاء الضنّية، كانوا قد قاموا بتجميعها بعد الإنتهاء من موسم تشحيل الأشجار المثمرة، أو من أشجار حرجية قريبة منهم.

عودة م. ح. إلى أساليب قديمة لصناعة وتحضير الخبز يدوياً وتقليدياً لا تقتصر عليه وحده، علماً أنّ هذا الأمر لم ينقرض في السّنوات الأخيرة في هذه المنطقة الريفية ذات الطابع التقليدي، إذ يكفي القيام بجولة في بلدات وقرى الضنّية، ساحلاً ووسطاً وجرداً، للتأكّد من أنّ التنّور، وأيضاً الصّاج ومواقد الحطب الأخرى، قد ازدهرت صناعتها في محال ومعامل الحدادة، واستعادت مجدها من جديد، وما ارتفاع أعمدة الدّخان المنبعثة منها يومياً في أغلب بلدات وقرى القضاء إلا دليلاً ملموساً على حجم الأزمة، وأنّ الأهالي وجدوا طريقهم إلى معالجتها أو التأقلم معها على أقلّ تقدير.

دليلان آخرن يشيران إلى أنّ كلّ أشكال تحضير وصناعة الخبز المنزلي قد استعادت حضورها في الضنّية، هما ارتفاع نسبة بيع أكياس الطحين في المطاحن ومحال السوبرماركت، التي لفت محمد زود، وهو عامل في أحدها، إلى أنّ هذه النسبة “إرتفعت بمعدل الضعف الشّهر الماضي، وهي مرشّحة للإرتفاع أكثر في أشهر الشتاء المقبلة”، مضيفاً أنّ “عائلات تحرص على شراء الطحين للتموين أيضاً، خشية إرتفاع سعره أو فقدانه من الأسواق في الأيّام المقبلة”.

أمّا الدليل الآخر فهو حرص الأهالي على عدم التفريط بالحطب الذي يجمعونه من أراضيهم الزّراعية بعد الإنتهاء من موسم التشحيل، إذ كانوا يقومون ببيعه أو حرقه أو تركه في بساتينهم يتلف مع مرور الزّمن، إلا أنّ كلّ ذلك بات من الماضي، إذ أصبح للحطب إستعمالات عديدة وضرورية، من الإستعانة به لتحضير الخبز، أو الطبخ والتدفئة وتسخين المياه، في ظلّ الغياب شبه التام للتيار الكهربائي، والإرتفاع الكبير في أسعار المحروقات من مازوت وغاز التي باتت بعيدة عن متناول وقدرة أغلب الأهالي، وبعدما وصل سعر طنّ الحطب إلى زهاء مليوني ليرة، ما جعل الحطب، وفق المواطن أحمد طالب من بلدة بقاعصفرين، “مونة أساسية يفترض تأمينها بأي شكل من الأشكال، ولا يمكن الإستغناء عنها أبداً، وإلا سوف نموت من الجوع والبرد”.

العودة إلى تجهيز وصناعة الخبز التقليدي منزلياً، سواء عن طريق التنّور أو الصاج، أعادت إلى هذه البلدات والقرى مشاهد تجمّع النسوة فيها على “صبحيات” معروفة حولها، غابت خلال السنين الماضية إلا بشكل نادر، وسردهنّ خبريات من كلّ شكل ولون، لكنّ المشكلة حسب قول آمنة طراد من بلدة طاران أنّ “الجيل القديم من النساء اللواتي كنّ يخبزن على التنّور أو الصاج تناقص كثيراً، إمّا بسبب الوفاة أو التقدّم في العمر، وأنّ قلة من النّسوة قادرات على القيام بهذا العمل، لأنّ الجيل الجديد من الفتيات غير نافعات، ما يدفع بعض الشبّان والرّجال إلى مساعدتهن”.

عبد الكافي الصمد

عبد الكافي الصمد

صحافي لبناني حاصل على شهادة الإجازة في الإعلام من جامعة الجنان في طرابلس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى