منوعات

لغز الفيروسات .. ليس لدينا في الحقيقة أية فكرة عن ماهية هذا العالم

نقَّبت ميا برايتبارت عن فيروسات جديدة داخل تلال النمل الأبيض في أفريقيا، ولدى حيوانات الفقمة في القطب الجنوبي، وفي مياه البحر الأحمر، بيد أن أثمن اكتشافاتها، لم يتطلب منها سوى دخول الحديقة الخلفية لمنزلها في فلوريدا. فهناك، تجمعت حول المسبح عناكب مدارية غازلة، ذات ظهور شوكية مدببة (تُعرف علميًّا باسم Gasteracantha cancriformis )، وهي عناكب مدهشة ومثيرة للاهتمام، ذات أجسام بيضاء مستديرة، تتناثر عليها بقع سوداء، وست شويكات قرمزية، تجعل شكلها شبيهًا بآلة حرب من القرون الوسطى. تنامت دهشة برايتبارت، التي تعمل اختصاصية في علم إيكولوجيا الفيروسات في جامعة ساوث فلوريدا بمدينة سانت بيترسبرج الأمريكية، حين فحصت ما بداخل هذه الكائنات. فعندما قامت مع زملائها بجمع عدد من هذه العناكب وطحنها، وجدوا بداخلها فيروسين غير معروفين للعلماء.

وعلى الرغم من أن اهتمام البشرية قد تركز منذ مطلع عام 2020 على فيروس بغيض واحد، إلا أن الكثير من الفيروسات الأخرى لم يُكتشَف بعد. ويقدِّر العلماء أن المحيطات وحدها آوت في وقت ما من تاريخها ما يزيد على 10 نونليونات من الجزيئات الفيروسية. وهو رقم يعادل عشرة مليارات ضِعف عدد النجوم في الكون المرصود.

ويتأكد لنا يومًا بعد يوم أن الأنظمة البيئية والكائنات الحية تعتمد على الفيروسات. فقد حفزت تلك الكائنات دقيقة الحجم، التي تتمتع مع ذلك بقوة هائلة، عملية النشوء والتطور منذ ملايين السنين، عن طريق نقل الجينات بين الكائنات المضيفة لها. وفي المحيطات، تشق الفيروسات أجسام الكائنات المجهرية، لتفرغ محتويات هذه الكائنات في المياه، وهو ما يغمر شبكات الغذاء بالعناصر المُغذية. وفي ذلك الصدد.، يقول كيرتيس ساتل اختصاصي علم الفيروسات من جامعة كولومبيا البريطانية بمدينة فانكوفر الكندية: “لولا الفيروسات، لما صمدت البشرية على قيد الحياة”.

وقد أدرجت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات (ICTV) حتى الآن أسماء ما لا يزيد على 9110 أنواع من الفيروسات، لكن من الواضح أن هذا الرقم لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من الأعداد الكلية. ويعود ذلك – في جزء منه – إلى أن أي تصنيف رسمي لفيروس ما كان يتطلب من العلماء في الماضي استنبات هذا الفيروس في الكائن المضيف، أو في خلايا الكائن المضيف، وهي عملية تستغرق الكثير من الوقت، ما لم تكن مستحيلة. وثمة سبب آخر، وهو أن عملية البحث عن الفيروسات في الماضي جنحت نحو اكتشاف الفيروسات المسببة للأمراض في الإنسان والكائنات التي تهمنا، مثل حيوانات المزارع، والنباتات المنتجة للمحاصيل، ثم جاءت جائحة كوفيد لتذكّرنا بأهمية دراسة الفيروسات القادرة على الانتقال السريع والمفاجئ من كائن مضيف إلى آخر، وهو ما يشكل تهديدًا لنا وللحيوانات التي نقوم بتربيتها، أو المحاصيل التي نزرعها.

وخلال السنوات العشر الماضية تزايد بدرجة كبيرة عدد الفيروسات التي استطاع العلماء العثور عليها وتسميتها، وذلك بفضل التقدم المُحرَز على صعيد تقنيات البحث عن الفيروسات، بالإضافة إلى التغيرات التي أُدخلت مؤخرًا على قواعد تحديد الأنواع الجديدة. وتقدم لنا دراسات الميتاجينوم بعضًا من الأساليب الفعالة في هذا الصدد، إذ تسمح للباحثين بجمع عينات جينومية في بيئة ما دون الحاجة إلى استنبات فيروسات كاملة. كما تسهم التقنيات الحديثة، مثل تقنيات تحديد التسلسل الجينومي لفيروسات مفردة، في إضافة فيروسات جديدة إلى القائمة، منها فيروسات شائعة إلى حد مثير للدهشة، لكن لم تظهر قبل الآن. وتعقيبًا على ذلك، تشير برايتبارت إلى أن إجراء هذا النوع من الأبحاث العلمية ممتع في وقت كهذا. واستطردت قائلة: “أعتقد أن الوقت الحاضر هو من نَواحٍ عدة العصرُ الذهبي لدراسة الجينومات الفيروسية”.

وعلى سبيل المثال، في عام 2020 وحده، أضافت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات 1044 نوعًا إلى قائمتها الرسمية للفيروسات، بينما توجد آلاف الفيروسات الأخرى في انتظار الانتهاء من توصيفها وتسميتها. وقد دفع هذا التنامي في أعداد الجينومات الفيروسية المكتشفة باحثي علم الفيروسات إلى مراجعة الأسلوب المتبع في تصنيف الفيروسات. كما ساعد في توضيح آلية نشوئها وتطورها. وثمة أدلة قوية على أن الفيروسات برزت إلى الوجود عدة مرات، ولم تنحدر من أصل أوحد.

يقول ينز كون، اختصاصي علم الفيروسات من المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية في فورت ديتريك بولاية ميريلاند الأمريكية، إنه بالرغم من كل هذه الإنجازات، فإن الاتساع الحقيقي لعالَم الفيروسات يبقى مجهولًا إلى حد كبير، مضيفًا: “ليس لدينا في الحقيقة أية فكرة عن ماهية هذا العالَم”.

 

الفيروسات في كل مكان

تشترك الفيروسات كافة في خاصيتين: يضم كل فيروس الجينوم الخاص به داخل قفيصة بروتينية، ويعتمد في عملية التكاثر على الكائن المضيف، سواء أكان إنسانًا، أَم عنكبوتًا، أَم نباتًا. وفيما عدا هذا النمط العام، تتميز أنماط الفيروسات بتنوعات لا نهائية.

ثمة فيروسات حلقية دقيقة تحمل جينين أو ثلاثة فقط. كما توجد فيروسات محاكية عملاقة، أكبر حجمًا من بعض البكتيريا، وتحمل مئات الجينات. وهناك العاثيات التي تغزو البكتيريا وتشبه مركبات الهبوط على القمر، ناهيك بالطبع عن الفيروسات الكروية الفتاكة ذات النتوءات الشوكية، التي بات العالم يعرفها ويعاني منها في الوقت الراهن. كذلك هناك فيروسات تقوم باختزان جيناتها في صورة حمض نووي، وأخرى تختزنه في صورة حمض نووي ريبي، بل إن هناك عاثيات تستخدم أبجدية جينية بديلة، إذ تستبدل قاعدة الأدينين الكيميائية في نسق قواعد الحمض النووي النيتروجينية التقليدي (ACGT)، (نسبة إلى الأدينين A، والسايتوزين C، والجوانين G، والثايمين T) بجزيء آخر يُسمى Z.

وتنتشر الفيروسات انتشارًا كبيرًا وواسعًا، بحيث يمكنها أن تظهر، حتى إنْ لم يبحث العلماء عنها. وعلى سبيل المثال، لم يكن فريدريك شولتس يعتزم دراسة الفيروسات حينما أخذ يفحص تسلسلات جينومية فيروسية مستخرَجة من مياه الصرف. ففي أثناء دراساته العليا بجامعة فيينا في عام 2015، كان يستعين بعلم الميتاجينوم في البحث عن أصناف بكتيرية، وهي عملية تتطلب استخلاص الحمض النووي من خليط كبير من الكائنات، وتجزئته إلى قطع صغيرة، وتحديد التسلسل جينومي لجميع هذه الأجزاء. وبعد ذلك، يتولى برنامج حاسوبي تجميع تلك القطع، وترجمتها إلى جينومات فريدة، في عملية تشبه حل أحجية تركيبية مكونة من مئات القطع المتناثرة.

ووسط الجينومات البكتيرية التي فحصها شولتس، وقع على جينوم فيروسي ضخم إلى حد لافت، كان من السهل ملاحظته، لأن قفيصته حملت جينات. ويتميز هذا الجينوم بأنه يحتوي على 1.57 مليون زوج قاعدي نووي.وقد اتضح أنه فيروس عملاق يشكل جزءًا من مجموعة تتصف بالضخامة من حيث حجم الجينوم والحجم الكلي (يصل قطرها عادة إلى 200 نانومتر، أو أكثر). وتصيب هذه الفيروسات الأميبا، والطحالب، وطلائعيات أخرى، وهذا يمنحها القدرة على التأثير في الأنظمة البيئية، سواءً المائية، أَم البرية.

وقد قرر شولتس – الذي يعمل الآن باحثًا في علم الأحياء الدقيقة بمعهد الجينوم المشترك، التابع لوزارة الطاقة الأمريكية في مدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا الأمريكية – البحث عن فيروسات مشابهة في قواعد بيانات الميتاجينوم. وكان قد نشر مع فريقه البحثي في عام 2020 بحثًا يضم توصيفًا لأكثر من 2000 جينوم من مجموعة الفيروسات العملاقة تلك. وقبل صدور هذا البحث، لم يكن الباحثون قد أُدرِجوا سوى 250 جينومًا من هذا النوع في قواعد البيانات المُعلنة.

كما بحث اختصاصيو علم الفيروسات عن أنواع جديدة من الفيروسات داخل جسم الإنسان. وعلى سبيل المثال، أجرى لويز كاماريو جيريرو، اختصاصي علم المعلومات الحيوية الفيروسية وفريقه البحثي من معهد وِيلْكَم سانجر في بلدة هينكستون بالمملكة المتحدة دراسة على ميتاجينومات مستخرَجة من أمعاء الإنسان، أسفرت عن وضع قاعدة بيانات تضم أكثر من 140 ألف نوع من العاثيات. وضم نصف هذا العدد أنواعًا جديدة لم يعرفها العِلْم من قبل. وقد جاءت نتائج دراسة الفريق، التي نُشرت في فبراير الماضي، مطابِقة لنتائج دراسات سابقة، خلصت إلى أن النوع الأكثر شيوعًا من الفيروسات التي تهاجم البكتيريا في أمعائنا هو مجموعة تُعرف باسم “عاثيات المُجمِّع التحويلي” crAssphage، (وتعود تسميتها إلى برمجية تجميع تحويلي اكتشفتها في عام 2014). ويعمل كاماريلو جيريرو حاليًّا في شركة “إيللومينا” Illumina النشطة في مجال تحديد تسلسلات الحمض النووي في مدينة كيمبردج بالمملكة المتحدة، ويرى أنه بالرغم من انتشار هذه المجموعة من الفيروسات، إلا أن العِلْم لا يعرف الكثير عن دورها في ميكروبيوم جسم الإنسان.

وقد كشفت لنا دراسات الميتاجينوم عن عدد هائل من الفيروسات، لكنها تغفل كذلك الكثير منها. وعلى سبيل المثال، لا تتسم الفيروسات التي تستخدم الحمض النووي الريبي بميتاجينوم تقليدي. ولهذا، بحث عنها كولين هيل، اختصاصي علم الأحياء الدقيقة من كلية كورك الجامعية، وفريقه البحثي في قواعد بيانات الميتاترانسكريبتوم الخاصة بالحمض النووي الريبي، التي يستخدمها العلماء عادة في دراسة الجينات التي تُترجم بصورة متعمَّدة إلى حمض نووي ريبي مرسال، بهدف إنتاج البروتينات في بعض الفيروسات، لكن قد تظهر كذلك في هذه البيانات جينومات الفيروسات التي تستخدم الحمض النووي الريبي. ومن هنا، استخدم الفريق تقنيات حوسبة في استخراج التسلسلات الجينومية لهذه الفيروسات من البيانات المتاحة، حيث وجدوا 1015 جينومًا فيروسيًّا في قواعد بيانات الميتاتراسكريبتوم، أُخِذت من عينات رواسب طينية ومياه وهكذا استطاع الباحثون مرة أخرى زيادة عدد الفيروسات المكتشفة بصورة هائلة من خلال بحث واحد.

وهذه الأساليب البحثية قد تَنْجُم عنها – بطريق الخطأ – تسلسلات جينومية خاطئة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الباحثين يستعينون بوسائل رقابة على جودة عمليات تحديد التسلسل الجيني، للحيلولة دون حدوث ذلك، بيد أنه تبقى هناك ثغرات في معرفتنا بهذه الكائنات. فعلى سبيل المثال، تراوغ الأنواع الفيروسية التي تتسم بالتنوع الكبير بين أفرادها العلماء، وتكون عصية على الاكتشاف، نظرًا إلى أنه من الصعب على البرامج الحاسوبية تجميع تسلسلاتها المتباينة.

Source: ICTV (talk.ictvonline.org/taxonomy); ICTV Coronaviridae Study Group. Nature Microbiol. 5, 536–544 (2020)

 

ويكمن حل بديل في تعيين تسلسل جينومات الفيروسات، كل على حدة، كما يفعل مانويل مارتينيز-جارثيا، اختصاصي علم الأحياء الدقيقة من جامعة أليكانتي بأسبانيا. فقد حاول مارتينيز جارثيا أن يُقطِّر مياه البحر من خلال ماكينة تصفية، حتى يتمكن من عزل فيروسات مفردة، ثم قام بتكبير الحمض النووي الخاص بها، ومن ثم شرع في وضع التسلسل الجينومي الخاص بها.

 

وجد مارتينيز-جارثيا 44 جينومًا فيروسيًّا في أول محاولة قام بها، تبين أن أحدها يُمثل أحد أكثر أنواع الفيروسات وفرة في المحيطات. وهو فيروس شديد التنوع، حيث تتباين القطع الجينية المكوِّنة له تنوعًا شديدًا من جسيم إلى آخر به، إلى حد جعل الجينوم الخاص به لا يتضح في دراسات الميتاجينوم من قبل. وقد أطلق عليه فريق البحث اسم 37-F6، وفقًا لموقعه على طبق المختبر الأصلي، بيد أن مارتينيز-جارثيا يمزح قائلًا إن اسم الفيروس يجب أن يكون 007 مثلما يُطلَق على شخصية الجاسوس الخيالية الشهيرة جيمس بوند، نظرًا إلى قدرته الفائقة على الاختفاء وهو على مرأى من الباحثين.

 

شجرة عائلات الفيروسات

لا يزال هذا الفيروس الذي يُعَد بمثابة جيمس بوند بين فيروسات المحيطات يفتقر إلى اسم لاتيني رسمي للإشارة إلى نوعه، وهو الحال مع آلاف من جينومات الفيروسات التي اكتشفتها دراسات الميتاجينوم على مدار السنوات العشر الماضية. وقد شكلت هذه الفيروسات معضلة للجنة الدولية لتصنيف الفيروسات، تمثلت في اللغز الآتي: هل يكفي تحديد التسلسل الجينومي لتسمية الفيروس؟  حتى عام 2016، وباستثناءات نادرة، كانت عملية عرض أي فيروس جديد أو مجموعة تصنيفية جديدة على اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات تتطلب من العلماء وضع الفيروس والكائن المضيف له في بيئة استنباتية، لكن في عام 2016، وبعد جدل محتدم، لكنه قائم على الود، اتفق اختصاصيو علم الفيروسات على أن عرض التسلسل الجينومي وحده يكفي

وهنا انهمرت على اللجنة مقترحات الباحثين بإدراج فيروسات ومجموعات فيروسية جديدة في قائمتها. ومع هذا، فقد بقيت العلاقات التطورية بين هذه الفيروسات مبهمة في كثير من الأحيان، إذ غالبًا ما يصنِّف المختصون الفيروسات على أساس أشكالها (على سبيل المثال، بناء على ما إذا كانت طويلة، أم رفيعة، أم ذات رأس وذيل)، أو على أساس جينوماتها (سواء وفق تسلسل الحمض النووي، أم الحمض النووي الريبي، أو ما إذا كان الحمض النووي أو الحمض النووي الريبي مفردَي الشريط، أم مزدوجَي الشريط)، إلا أنه من المفاجئ أن هذه التصنيفات لا تدلّنا على الكثير مما يتعلق بالنَّسب المشترك للفيروسات. فعلى سبيل المثال، نجد أن الفيروسات التي تملك جينومات مؤلَّفة من الحمض النووي مزدوج الشريط قد نشأت على أربع فترات منفصلة، على أقل تقدير.

أما التصنيف الأصلي، الصادر عن اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات، ولا يمت بأي صلة إلى شجرة حياة الكائنات الخلوية، فلم يُدرِج سوى الدرجات الدنيا من التسلسل الهرمي التطوري، بدءًا من النوع والجنس، وصولًا إلى مستوى الرتبة، وهي درجة تعادلها الرئيسيات والأشجار ذات الأقماع في تصنيف الكائنات متعددة الخلايا. لم يتضمن هذا التصنيف مستويات أعلى. وعليه، فقد بقيت عائلات من الفيروسات هائمة وحدها في شجرة التطور، دون إيجاد العلاقة بينها وبين الأنواع الفيروسية الأخرى. ولهذا، فقد أضافت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات في عام 2018 مستويات أعلى، مثل الصنف، والشعبة، والمملكة.

وقد وضعت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات مستوى “العالم الفيروسي” realm في أعلى المراتب، ليكون بمثابة نظير لمستوى “النطاق” domain  بين أشكال الكائنات وحيدة الخلية، مثل البكتيريا، والعتائق، وحقيقيات النوى، لكن مع استخدام مصطلح مختلف للتفرقة بين الشجرتين. (وقد لفت بعض العلماء قبل عدة أعوام إلى إمكان إدراج بعض الفيروسات ضمن تصنيفات الشجرة التطورية الخلوية، لكنها فكرة لم تلق استحسانًا كبيرًا).

ووضعت اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات تصورًا لفروع شجرة تصنيف الفيروسات، ثم قامت بإدراج الفيروسات المؤلَّفة من الحمض النووي الريبي معًا ضمن عالم فيروسي يُسمى Riboviria. ويقع فيروس “سارس-كوف-2” SARS-CoV-2 وغيره من فيروسات كورونا ذات الجينومات المؤلَّفة من حمض نووي ريبي مفرد الشريط ضمن هذا العالم الفيروسي، لكنْ ظل إدراج مجموعات تصنيفية أخرى متروكًا لمجتمع اختصاصيّ علم الفيروسات الأوسع. وقد شكل يوجين كونِن، اختصاصي علم الأحياء التطوري من المركز القومي لمعلومات التكنولوجيا الحيوية في مدينة بيثيسدا بولاية ميريلاند الأمريكية، فريقًا بحثيًّا يسعى لتحليل الجينومات الفيروسية كافة، ودراسة آخِر الأبحاث التي تتناول بروتينات الفيروسات، وذلك بهدف إصدار مسودة تصنيفية أولية.

وقد أعاد الفريق ترتيب شجرة عالم Riboviria، واقترح إدراج ثلاثة عوالم أخرى (انظر: “العوالم الفيروسية”) في شجرة تصنيف الفيروسات. ويذكر كونن نشوب جدل حول بعض تفاصيل كيفية القيام بذلك. ومع ذلك، فقد قام أعضاء اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات في عام 2020 بالتصديق على التصنيف، دون أن تواجهه عقبات كثيرة. وفي عام 2021، أُجيز اقتراح بإدراج عالَمين فيروسيين جديدين في شجرة تصنيف الفيروسات، لكن كونِن يرى أن العوالم الفيروسية الأربعة الأصلية ستظل – على الأرجح – هي الأوسع والأعم. ويتوقع أن يصل عدد العوالم الفيروسية إلى 25 عالَمًا مع مرور الوقت.

ويؤكد هذا الرقم شكوك بعض الباحثين حول عدم وجود نَسب واحد مشترك للفيروسات. وعن ذلك يقول كونن: “ما مِن أصلٍ واحد للفيروسات كافة. ببساطة، لا يوجد شيء كهذا”. وهذا يعني أن الفيروسات قد نشأت – على الأرجح – على عدة مراحل، وفي أوقات مختلفة على مدار تاريخ الحياة على الأرض. وما من سبب يدعونا للاعتقاد أن تلك النشأة لن تتكرر مرة أخرى. يقول مارت كروبوفيتش، اختصاصي علم الفيروسات من معهد باستور في باريس، الذي شارك في قرارات اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات، ويعمل ضمن فريق كونِن للتصنيف: “ما زلنا نكتشف أصولًا جديدة للفيروسات الجديدة”.

أما فيما يتعلق بكيفية نشوء العوالم الفيروسية، فنجد أن اختصاصيي علم الفيروسات يقدمون تفسيرات مختلفة لذلك. فقد تكون هذه العوالم قد تطورت من عناصر جينية مستقلة عن بعضها البعض منذ فجر الحياة على الأرض، قبل حتى تكوُّن الخلايا. وربما تكون قد تسربت أو “انحدرت” من خلايا مكتملة، بعد أن تخلصت من معظم الآليات الخلوية، لكي تتمكن من  تحقيق أسلوب حياة يعتمد على عناصر بسيطة. أما كونِن وكروبوفيتش، فيميلان إلى فرضية تَجْمَع بين كل هذه الفرضيات، مفادها أن تلك العناصر الجينية البدائية قد سرقت جينات من أشكال الحياة الخلوية، لكي تبني جسيماتها الفيروسية. كما يضيف كونِن الذي شغل أيضًا منصبًا في اللجنة الدولية لتصنيف الفيروسات، وكان جزءًا من فريق العمل على مقترح التصنيف الجديد، إنه من المحتمل أن تكون الفيروسات قد نشأت بطرق متعددة، نظرًا إلى أن لها أصولًا متعددة.

ولهذا، فبالرغم من أن شجرة عائلات الفيروسات تختلف عن شجرة عائلات الكائنات الخلوية، إلا أن أغصان الشجرتين تتلاقَى؛ فتنتقل الجينات بينهما. ويتوقف احتساب الفيروسات ضمن الكائنات “الحية” على تعريفك الخاص لمعنى الحياة. فالعديد من الباحثين لا يرون الفيروسات كائنات حية، في حين يختلف باحثون مع هذا الرأي. لذا، يقول هيرويوكي أوجاتا، اختصاصي نظم المعلومات الحيوية، الذي يدرُس الفيروسات في جامعة كيوتو في اليابان: “أجنح إلى القول بأن الفيروسات حية”، وأضاف قائلًا: “إن الفيروسات تتحور، ولديها مواد جينية تتألف من حمض نووي، وحمض نووي ريبي، كما أنها تلعب دورًا كبيرًا في تطور أشكال الحياة”.

وينظر الكثيرون إلى التصنيف الحالي على أنه مجرد محاولة أولية، ويرى بعض اختصاصيي علم الفيروسات أنه تصنيف مربك بعض الشيء، إذ نجد أن عددًا من العائلات الفيروسية لا يزال غير مدرَج ضمن أي عوالم فيروسية. وحول ذلك يقول مارتينيز-جارثيا: “الجانب المشرق هنا أننا نحاول إدخال بعض النظام على هذه الفوضى”.

الفيروسات تغيِّر العالَم

تُماثِل كتلة الفيروسات الموجودة على الأرض ما يعادل حجم 75 مليون حوت أزرق. والعلماء على يقين بأن الفيروسات تؤثر على شبكات الطعام، والأنظمة البيئية، وحتى الغلاف الجوي للأرض. وعلى سبيل المثال، يقول ماثيو سوليفان، اختصاصي علم الفيروسات البيئي من جامعة ولاية أوهايو في مدينة كولومبوس الأمريكية، إن تسارع وتيرة اكتشاف الفيروسات “قد كشف عن عدد هائل من الطرق غير المعروفة سابقًا، التي يمكن للفيروسات أن تؤثر بها على أنظمتنا البيئية”، بيد أن العلماء لا يزالون يسعون إلى حصر حجم هذا التأثير ومداه.

وحول ذلك يقول أوجاتا: “ليس لدينا تفسير مبسط لهذا التأثير في الوقت الحالي”. ففي المحيطات، على سبيل المثال، يمكن للفيروسات أن تندفع خارجة من الكائنات الميكروبية المضيفة لها، وهو ما يُفرز كربونًا يعاد تدويره من خلال فيروسات أخرى تأكل أحشاء الكائن المضيف، وتنتج ثاني أكسيد الكربون، بيد أن العلماء بدأوا يدركون مؤخرًا أن الخلايا التي تخترقها الفيروسات خروجًا منها غالبًا ما تتكتل مع بعضها البعض، وتغرق في قاع المحيط، وهو ما يعزل الكربون بعيدًا عن الغلاف الجوي.

ويقول سوليفان إن التربة الصقيعية الذائبة تُعَد مصدرًا مهمًّا للكربون على اليابسة، حيث يبدو أن الفيروسات تلعب دورًا كبيرًا في إطلاق الكربون من الميكروبات الموجودة في تلك البيئات. ففي عام 2018، قام سوليفان وزملاؤه بتوصيف 1907 من جينومات وشظايا فيروسات، جُمِعت من تربة صقيعية في السويد. وقد ضمت هذه الجينومات والشظايا جينات بروتينات قد تؤثر على تحلل مركبات الكربون، وإمكانية تحوُّله إلى غازات دفيئة.

كما قد تؤثر الفيروسات على كائنات أخرى، عن طريق تحفيز جينوماتها. فعلى سبيل المثال، عندما تقوم الفيروسات بنقل الجينات المقاومة للمضادات الحيوية من بكتيريا إلى أخرى، قد يتسبب ذلك في هيمنة سلالات جديدة مقاوِمة للأدوية. ومن ثم، يقول كاماريو-جيريرو إنه مع مرور الوقت قد يتسبب هذا النوع من نقل الجينات في طفرات تطورية كبرى داخل جماعات البكتيريا. ولا يحدث هذا في البكتيريا فقط، إذ إن 8% تقريبًا من الحمض النووي البشري من أصل فيروسي. وعلى سبيل المثال، اكتسب أسلافنا من الثدييات جينًا من أصل فيروسي يلعب دورًا لا غِنًى عنه في عملية تطور المشيمة.

وسوف يحتاج العلماء إلى إجراء فحوص أخرى بخلاف فحوص الجينومات، حتى يمكنهم الإجابة عن العديد من الألغاز التي تتعلق بأنماط حياة الفيروسات، إذ سيتعين عليهم العثور على الكائن المضيف للفيروس. أما الفيروس ذاته، فقد يحمل للعلماء بعض القرائن. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكون قد أُضيف له في الجينوم الخاص به جزء واضح من المادة الجينية الموجودة داخل الكائن المضيف.

 

وقد استخدم مارتينيز-جارثيا وزملاؤه علم جينوم الكائنات وحيدة الخلية للتعرُّف على الميكروبات التي تحوي فيروس 37-F6 المكتشَف حديثًا. وقد كان الكائن المضيف لهذا الفيروس واحدًا من أكثر الكائنات وفرة وتنوعًا في البحار، وهو بكتيريا تسمى Pelagibacter، وتمثل نصف الخلايا الموجودة في بعض أنواع المياه. وعليه، يقول جارثيا-مارتينيز إن اختفاء مفاجئًا لهذا النوع من الفيروسات وحده قد يصيب الحياة في المحيطات بخلل شديد.

أما أليكساندرا فوردن، اختصاصية علم البيئة التطوري من مركز جيومار هيلمهولتس لأبحاث المحيطات في مدينة كيل بألمانيا، فترى أن العلماء يحتاجون إلى دراسة كيف يدخل الفيروس التغييرات على الكائن المضيف، كي يمكنهم فهم التأثير الكامل للفيروس. وتعكف فوردن على دراسة فيروسات عملاقة تحمل جينات بروتينات مجمِّعة للضوء، تُسمى بروتينات “الصباغ البنفسجي”. ومن الناحية النظرية، يمكن أن تكون هذه الجينات مفيدة للكائن المضيف في وظائف معينة، مثل نقل الطاقة، أو التأشير، لكن لا يمكن تأكيد ذلك من خلال التسلسل الجينومي للفيروس. وتعتزم فوردن استنبات الكائن المضيف والفيروس معًا، ودراسة سلوك كليهما في الحالة المركبة القائمة على غزو الفيروس للخلية. وتقول فوردن: “إن بيولوجيا الخلايا هي السبيل الوحيد لتحديد الدور الحقيقي للفيروس، وتأثيراته على دورة الكربون”.

أما في فلوريدا، فإن برايتبارت لم تستنبت فيروسات العناكب التي جمعتها. ومع ذلك، فقد تمكنت من الكشف عن المزيد من المعلومات عن هذه الفيروسات. ينتمي زوج الفيروسات الذي اكتشفته برايتبارت إلى فئة مدهشة من الفيروسات، على حد وصف العالمة، وذلك نظرًا إلى الجينومات الدائرية دقيقة الحجم لهذه الفيروسات، التي تقوم بترميز جين واحد فقط للحصول على البروتين اللازم لقفيصتها، وجين آخر للحصول على البروتين اللازم للتكاثر. وينحصر وجود أحد هذين الفيروسين في جسم العنكبوت، في حين لا يوجد في ساقيه. ولهذا، تعتقد برايتبارت أن الفيروس في الواقع يصيب بعض الكائنات التي يأكلها العنكبوت. أما الفيروس الثاني، فيمكن العثور عليه في أنحاء جسم العنكبوت كافة، وكذلك في البيض الذي يضعه، وفي العناكب الوليدة، وهو ما دفع برايتبارت إلى الاعتقاد بأنه ينتقل من أحد الأبوين إلى النسل، إلا أن برايتبارت تضيف قائلة إن الفيروس – على حد علمها – لا يبدو أنه يتسبب للعناكب في أي ضرر.

وتقول برايتبارت: “إن العثور على الفيروسات هو أسهل مراحل الدراسة” . أما الجزء الأصعب، فهو تحديد الطريقة التي تؤثر بها الفيروسات على دورة حياة الكائن المضيف، والنظام البيئي المحيط به. وتضيف برايتبارت قائلة إن اختصاصيي علم الفيروسات يتعين عليهم أولًا الإجابة عن واحد من أصعب الأسئلة على الإطلاق: “كيف تختار الفيروس الذي ستجري عليه الأبحاث؟”.

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى