صحة

الألغاز المهمة للأمراض المزمنة بعدوى «سارس-كوف-2»

يعاني  العديد من المرضى مما أصبح يُعرف الآن باسم الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، وهو اضطراب يستمر لفترة طويلة، ويظهر عقب الإصابة بعدوى فيروس «سارس-كوف-2»، الذي يسبب الإصابة بمرض «كوفيد-19».

فقد كشفت استقصاءات شملت آلاف الأفراد عن مجموعة ممتدة من الأعراض المرتبطة بالمرض، من بينها: الإرهاق الجسدي، والسعال الجاف، وضيق التنفس، والصداع، وآلام العضلات. وفي دراسة شملت أكثر من 3500 فرد، كشف فريق بقيادة أثينا أكرامي، اختصاصية علم الأعصاب من كلية لندن الجامعية، التي تعاني من الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»، عن وجود 205 أعراض للمرض. فبعد ستة أشهر من الإصابة به، كانت الأعراض الأكثر شيوعًا له هي: “الإرهاق الجسدي، والتوعك عقب بذل مجهود، واختلال الوظائف الإدراكية». وتتسم تلك الأعراض بالتذبذب، وغالبًا ما يمر الأفراد بمراحل من التحسن، قبل انتكاس حالتهم مجددًا.

وخلال الأشهر الأولى من الوباء، تجاهل العلماء احتمالية أن يتسبب الفيروس في الإصابة بحالة مرضية مزمنة، وذلك في خضم السعي المستميت للتصدي للحالات الحادة من المرض. لكن احد المرضى سرعان ما أدركت أنها ليست الوحيدة التي تعاني من شكل طويل الأمد من المرض. ففي مايو من عام 2020، أنشأت مجموعة على موقع «فيسبوك» تجمع بين المصابين بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». واليوم، تضم المجموعة أكثر من 40 ألف عضو، وتتعاون مع فِرق بحثية تدرس هذه الحالة المرضية.

في الوقت نفسه، لم تعد الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» مجرد ظاهرة غريبة يتجاهلها الكثيرون، وأضحت مشكلة معترَف بها في مجال الصحة العامة. ففي يناير من العام الجاري، نقَّحت منظمة الصحة العالمية إرشاداتها الخاصة بعلاج «كوفيد-19»، بحيث تتضمن توصيات بأنْ تُتاح لجميع المرضى إمكانية الحصول على رعاية لاحقة في حال إصابتهم بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد».

وقد بدأت الهيئات التمويلية كذلك في إبداء اهتمام بهذه المشكلة. ففي الثالث والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، أعلنت معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) أنها سوف تنفق 1.15 مليار دولار على مدار أربع سنوات على الأبحاث حول الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»، فيما تشير إليه بمصطلح «الآثار المرضية الحادة التالية للإصابة بكوفيد-19». وفي المملكة المتحدة، أعلن المعهد الوطني لأبحاث الصحة (NIHR) في فبراير الماضي أنه سوف يضخ استثمارات قيمتها 18.5 مليون جنيه إسترليني (25.8 مليون دولار أمريكي) لتمويل أربع دراسات حول الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد». وفي الشهر التالي، أعلن المعهد عن رصد تمويلات إضافية لهذه الغاية بقيمة 20 مليون جنيه أسترليني.

ومع تجاوُز عدد حالات الإصابة المؤكدة بـ«كوفيد-19» لـ170 مليون حالة حول العالم، فمن المحتمل أن ملايين الأفراد يعانون أعراضًا مستمرة، ويبحثون عن إجابات على أسئلة تتعلق بصحتهم مستقبلًا. من هنا، تتناول دورية Nature في هذا المقال الأسئلة الأربعة الأهم التي يبحث العلماء عن إجابات لها فيما يتعلق بالحالة المرضية الغامضة التي تُعرف باسم «كوفيد طويل الأمد».

كم عدد الأفراد الذين يصابون بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، ومَن الأكثر عرضةً للإصابة بها؟

يتأكد لنا على نحو متزايد مدى الانتشار الكلي للإصابة بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»، وذلك بفضل سلسلة من الدراسات الاستقصائية؛ لكنْ لم يتأكد بالدرجة نفسها مَن هم الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بهذه الآثار، ولِمَ تصيب بعض الأشخاص فحسب، دون غيرهم.

معظم الدراسات المبكرة التي تناولت نِسَب انتشار الإصابة بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد» ركَّز على الأفراد الذين أُودعوا المستشفيات بسبب معاناتهم من إصابة حادة بـ«كوفيد-19». من هنا، جمعت أني نالبانديان، وهي متخصصة في طب القلب من مركز إيرفينج الطبي التابع لجامعة كولومبيا في نيويورك، بالتعاوُن مع زملائها، تسع دراسات، للنظر في ما تمخضت عنه في بحث نُشر في الثاني والعشرين من مارس الماضي ووجدوا أن نسبة تتراوح بين 32.6%، و87.4% من المرضى أفادوا باستمرار عرض واحد على الأقل من أعراض «كوفيد-19»عقب مرور عدة أشهر.

معظم المصابين بـ«كوفيد-19» لم يصل مرضهم إلى حدّ خطير يستلزم معه إيداعهم في مستشفى. ومن ثم، فإن السبيل الأمثل لتقييم مدى شيوع الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد» هو متابعة مجموعة من الأفراد تعبِّر عمن تأكدت إصابتهم بالفيروس. وبالفعل، يستخدم مكتب الإحصائيات الوطنية بالمملكة المتحدة (ONS) هذا النهج، إذ يتابع أحوال ما يزيد على 20 ألف شخص ممن تأكدت إصابتهم بالفيروس منذ إبريل من عام 2020 (انظر الشكل المعنون «نقطة نهاية غير مؤكدة»). وفي أحدث التحليلات الصادرة عن المكتب، والمنشورة في الأول من إبريل الماضي، وُجد أن 13.7% من المرضى ظلوا يفيدون بوجود أعراض لديهم بعد 12 أسبوعًا على الأقل من الإصابة (لا يوجد تعريف متفق عليه على نطاق واسع للآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»، لكن مكتب الإحصائيات الوطنية يَعُدّ أعراض «كوفيد-19» المستمرة لما يزيد على شهر مؤشرًا على الإصابة بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»).

في ذلك الصدد، تقول إكرامي: «أعتقد أن تلك النسبة هي أفضل تقدير توصلنا إليه حتى الآن»، وهي تقسِّم حاليًّا الوقت الذي تخصصه للأبحاث بين مجال تخصصها الأساسي، وعلم الأعصاب، ودراسة الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19».

وبعبارة أخرى، أكثر من واحد من كل عشرة أشخاص ممن أصيبوا بـ«سارس-كوف-2» تَطوَّر مرضهم إلى إصابة بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». وإذا كانت نسبة شيوع المرض في المملكة المتحدة تنطبق على أماكن أخرى، فسوف يعني هذا وجود أكثر من 16 مليون مصاب بهذا المرض حول العالم.

من جهة أخرى، تشيع هذه الحالة المرضية بين النساء أكثر من الرجال. ففي تحليل آخَر أجراه مكتب الإحصائيات الوطنية، ظهر أن 23% من النساء، و19% من الرجال لا يزالون يعانون أعراض المرض بعد 5 أسابيع من إصابتهم بالعدوى. وتبدو هذه النتيجة «مدهشة» على حد قول رايتشيل إيفانز، العالمة المتخصصة في الطب الإكلينيكي من جامعة ليستر، المملكة المتحدة، وعضو «مجموعة دراسة حالات كوفيد-19 بعد احتجازها بالمستشفيات»، (PHOSP-COVID)، التي تضيف: “إذا كنتَ ذكرًا وأُصِبْتَ بعدوى «كوفيد-19»، تزداد احتمالية احتجازك في المستشفى، وربما وفاتك من جرّاء المرض. ففي الواقع، الإناث أكثر قابلية للنجاة بكثير من المرض، إلا أنهن أكثر عرضة للإصابة بأعراضه المستمرة”.

ثمة أيضًا توزيع عمري لافت للمصابين بآثار «كوفيد-19»طويلة الأمد. فوفقًا لمكتب الاحصائيات الوطنية، تنتشر هذه الصورة من المرض بمعدل أكبر بين الأفراد متوسطي العمر، إذ تبلغ نسبة شيوعه 25.6% بعد 5 أسابيع من الإصابة لدى مَن تتراوح أعمارهم بين 35 و49 عامًا. ويقل شيوع هذه الصورة من المرض بين الأفراد الأصغر عمرًا، ولدى الأفراد الأكبر عمرًا؛ على الرغم من أن هذه النتيجة الأخيرة قد ترجع إلى «انحياز الإحصاء للناجين» على حد زعم إيفانز، لأن كثيرًا من كبار السن الذين أصيبوا بـ«كوفيد-19» قد توفوا بفعل المرض.

وعلى الرغم من أن ظهور الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» بين الأفراد الأصغر سنًّا أكثر ندرة، إلا أن هذا لا يعني غيابه بينهم. فحتى في حال الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين عامين و11 عامًا، تشير تقديرات مكتب الإحصائيات الوطنية إلى أن 9.8% ممن تأكدت إصابتهم بالفيروس منهم تستمر معاناتهم من الأعراض بعد 5 أسابيع على الأقل من الإصابة، وهو ما يدعم ما أشارت إليه دراسات أخرى من أن الأطفال قد يصابون بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». ورغم ذلك، يشكك بعض العاملين في المهن الطبية في صحة ذلك، كما تزعم سامي ماكفارلاند، وهي مؤسسة مجموعة دَعْم في المملكة المتحدة تُسمى «مؤسسة دعم الأطفال المصابين بآثار طويلة الأمد لكوفيد»، وتعلل لذلك قائلة: “لا أحد يصدق أن الأطفال يصابون بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، وأعراضهم تكون طفيفة إلى أقصى حد”، بيد أن العمر والجنس يلعبان دورًا قويًّا إلى حد مدهش في تحديد الأفراد المعرَّضين لخطر الإصابة. ففي ورقة بحثية نُشرت في مارس الماضي، طرح باحثون نموذجًا نجح في التنبؤ باحتمالية إصابة شخص بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»، بناءً على العمر، والجنس، وعدد الأعراض التي أُفيد بحدوثها في الأسبوع الأول من الإصابة.

ورغم ذلك، لا يزال ثمة الكثير مما يكتنفه الغموض. وتحديدًا السؤال التالي: إذا كان حوالي 10% ممن أصيبوا بعدوى «سارس-كوف-2» يعانون آثارًا طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، كما تشير بيانات مركز الإحصائيات الوطنية، فلِمَ يصاب هؤلاء الأفراد تحديدًا دون غيرهم؟

ما الأسس البيولوجية وراء الإصابة بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد»؟

على الرغم من أن الباحثين تَقَصّوا الأعراض المتنوعة لـ«كوفيد-19» طويل الأمد تقصيًّا شاملًا، لم يظهر بعد تفسير واضح لتلك الأعراض. وفي هذا الصدد، تقول هاستي: “نحتاج إلى أنْ يدرس الباحثون الآليات الكامنة خلف أعراض المرض”، بيد أن تنفيذ هذا لن يكون سهلًا؛ فقد أوضحت الدراسات أن كثيرًا من الأفراد المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» يعانون من مشكلات صحية بأعضاء متعددة، وهو ما يشير إلى  أنه مرض يؤثر على العديد من أجهزة الجسم البشري.

ومن المستبعد أن يظل الفيروس نفسه نشطًا في الجسم، على حد قول إيفانز، التي تضيف قائلة: “أظهر معظم الدراسات أنه بعد بضعة أسابيع يكون جسد المريض قد تخلص تقريبًا من الفيروس، لذا أشكك بشدة في أن هذه الآثار للمرض مُعْدية.

رغم ذلك، ثمة دلائل على أن شذرات من الفيروس، على سبيل المثال جزيئات من بروتين الفيروس، قد تظل باقية في جسم المريض لأشهر وفي تلك الحالة قد تسبب اضطرابات في الجسم، حتى إنْ عجزت عن إصابة الخلايا بالعدوى.

ويشير احتمال آخر إلى أن الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» قد تكون ناتجة عن اختلال شديد في الجهاز المناعي، ومهاجمته لباقي أعضاء الجسد. وبعبارة أخرى، قد تكون الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» بمثابة أحد أمراض المناعة الذاتية. وفي هذا السياق، يقول ستيفن ديكس، الطبيب وباحث الأمراض المعدية من جامعة كاليفورنيا، بسان فرانسيسكو: “يشبه «سارس-كوف-2» القنبلة النووية في علاقته بالجهاز المناعي، فهو يفجر تغييرات بكل أعضائه”. وقد يظل بعض تلك التغييرات الناتجة عن العدوى باقيًا، كما لاحظنا في أعقاب أنواع أخرى من العدوى الفيروسية (انظر القسم المعنون «ما العلاقة بين الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، ومتلازمات ما بعد العدوى الأخرى؟»)، لكن الجَزْم بصحة أي من الفرضيتين لا يزال سابقًا جدًّا لأوانه، وقد يكون كلاهما صحيحًا في حالات مختلفة؛ إذ تشير البيانات الأولية إلى أن الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» قد تتمثل في عدة اضطرابات مجتمعة في اضطراب واحد.

من ناحية أخرى، شرع بعض الباحثين في تنفيذ الخطوة التالية، آملين في حل لغز الأسس البيولوجية لـ«كوفيد-19»، إذ ألحقت «مجموعة دراسة حالات كوفيد-19 عقب احتجازها في المستشفيات» أكثر من ألف مريض بريطاني في تجاربها، وسحبت عينات دم منهم لفحصها، بحثًا عن أدلة على وجود التهاب، وأمراض في الأوعية الدموية والقلب لديهم، وتغيرات أخرى. وبالمثل، في بعض التجارب، ساعد ديكس على إلحاق قرابة 300 من مرضي «كوفيد-19»، خضعوا عقب ذلك لمتابعة كل أربعة أشهر، وقدموا عينات دم ولعاب. وفي هذا السياق، يقول ديكس: “أصبح لدينا بنك ضخم من العينات، ونبحث عن آثار التهابية، وتغيرات في نظام التخثر، ودلائل على استمرار وجود الفيروس”. وقد اكتشف الفريق تَبَدُّلًا في مستويات السيتوكينات — وهي جزيئات تساعد على تنظيم الاستجابات المناعية — في عينات دم الأفراد الذين أصيبوا بـ«كوفيد-19»، وهو ما يشير إلى وجود اختلال في الجهاز المناعي لديهم بالفعل، ووجدوا كذلك واسمات بروتينية تشير إلى وجود اختلال وظيفي في الخلايا العصبية.

إنّ فهمًا أفضل للأسس البيولوجية المسببة لآثار «كوفيد-19» طويلة الأمد سوف يقودنا إلى إيجاد علاجات وأدوية له، على حد قول إيفانز، بيد أن وجود تفسير واحد منمق للآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» يبدو مستبعدًا. فيقول ديكس: «”ثمة قصة تتبلور، لكنها لا تحكي عن نمط ظاهري إكلينيكي واحد، بل تتضمن تنويعات مختلفة من الأنماط والتسلسلات الجينية. وقد تعتمد كل منها على آليات مختلفة”. ويخطط فريق إيفانز البحثي لاستخدام تعلُّم الآلة، لمعرفة عدد الأنماط الموجودة، وأوجه اختلافها.

حاولت إيفانز وزملاؤها في مجموعة «دراسة حالات كوفيد-19 عقب احتجازها بالمستشفيات» تجربة هذا النهج، كما ظهر في مسودة بحثية نُشرت يوم الخامس والعشرين من مارس الماضي إذ درسوا الحالة الصحية لـ1077 مريضًا مصابًا بـ«كوفيد-19»، وسجلوا الأعراض التي ظهرت لديهم، بما في ذلك الاعتلالات الجسدية، ومشكلات الصحة النفسية، مثل القلق، والاعتلالات المعرفية في مجالات مثل الذاكرة، واللغة. وسجل الباحثون كذلك المعلومات الأساسية عن المرضى، مثل العمر، والجنس، والبيانات الكيميائية الحيوية على غرار مستويات بروتين سي التفاعلي، وهو مؤشر لقياس الالتهاب. واستخدم الفريق بعد ذلك أداة رياضياتية تُسمى التحليل العنقودي، لمعرفة ما إذا كانت ثمة مجموعات يمكن تمييزها من الأفراد المتشابهين في خصائص مرضهم.

وتتحدث إيفانز عن ذلك قائلة: “قد تظن أن أولئك المرضى الذين أصيبوا بضرر حاد، أو جسيم بالرئة، أو بفشل في عدة أعضاء من أجسادهم سيعانون من الشكل المستمر من المرض”، لكن الدراسات كشفت عن وجود صلة ضعيفة تربط بين شدة المرحلة الحادة من المرض، أو مستويات تضرُّر الأعضاء، ودرجة الإصابة بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19».

وقد بدت الحقيقة أكثر تعقيدًا. فقد اكتشف التحليل وجود أربع مجموعات من المرضى المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». وقد تباينت أعراضهم، إذ عانى الأفراد في ثلاث مجموعات من اعتلالات جسدية ونفسية بدرجات متفاوتة، لكنهم لم يعانوا مشكلات إدراكية، أو لم يعانوا إلا القليل منها فحسب. أما المجموعة الرابعة، فلم يُظْهِر أفرادها إلا اعتلالات جسدية ونفسية متوسطة الدرجة، لكنهم عانوا من مشكلات إدراكية ملحوظة.

وتعلق إيفانز على ذلك بقولها: “كانت اعتلالات الإدراك بمثابة بُعْد منفصل تمامًا للمرض، ولم نكن نتوقع قط هذه النتائج”، بيد أنها تؤكد على أن الدراسة لا تكشف الآليات الكامنة وراء الإصابة بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، وتضيف قائلة: “لكنها خطوة أولى، دون شك”.

ما العلاقة بين الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، ومتلازمات ما بعد العدوى الأخرى؟

بعض العلماء لم يفاجئهم ظهور آثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». فالاعتلالات التي تستمر بعد الإصابة بعدوي قد ذُكرت في الأدبيات العلمية طوال 100 عام، وذلك حسب قول أنطوني كوماروف، طبيب الأمراض الباطنية من كلية طب جامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية.

وقد نوَّه كوماروف إلى هذه الحقيقة في مارس الماضي، في أثناء ندوة عبر الإنترنت، عقدتها منظمة «إم إي أيه أكشن» MEACtion، وهي منظمة يقع مقرها في مدينة سانتا مونيكا، في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتهدف إلى زيادة الوعي بمرض التهاب الدماغ والنخاع المؤلم للعضلات، والمعروف أيضًا بمتلازمة التعب المزمن. والأفراد المصابون بهذا المرض الموهن يعانون من الإجهاد عقب القيام بأي نشاط وإنْ كان خفيفًا، ويواجهون كذلك أعراضًا أخرى، مثل الصداع. وعلى الرغم من تجاهُل العديد من العاملين بالمهن الطبية لهذا المرض، نظرًا إلى عدم وجود أسس بيولوجية واضحة تدعم وجوده، فإن متلازمة التعب المزمن أو التهاب الدماغ المؤلم للعضلات غالبًا ما تَحْدُث عقب الإصابة بعدوى فيروسية.

وجدير بالذكر أن تَسبُّب عدوى في ظهور أعراض طويلة الأمد ليس بالأمر نادر الحدوث. ففي دراسة شملت 253 فردًا شُخصت حالاتهم بالإصابة بعدوى فيروسية أو بكتيرية محددة، اكتشف الباحثون أن عقب 6 أشهر من العدوى، أفاد 12% من المرضى باستمرار بعض أعراض إصابتهم بالعدوى، مثل: “الإرهاق المُقْعِد، والألم العضلي الهيكلي، والاضطرابات الإدراكية العصبية، واختلال المزاج”. وتلك نسبة تشبه إلى حدّ مدهش نسبة شيوع الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، التي أَعلن عنها مكتب الإحصائيات الوطنية بالمملكة المتحدة.

وبعض الأفراد المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» سوف تنطبق عليهم – على الأرجح – المعايير التشخيصية لالتهاب الدماغ المؤلم للعضلات/متلازمة التعب المزمن، على حد قول كوماروف وزميلته لوسيندا بايتمان، من مؤسسة مركز بايتمان هورن في سولت لايك سيتي بولاية يوتاه الأمريكية، وهو مركز متخصص في علاج التهاب الدماغ المؤلم للعضلات/متلازمة التعب المزمن، لكنْ يبدو أن ثمة اختلافات بالفعل بين المرضين، فعلى سبيل المثال، الأفراد الذين يصابون بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، تزداد احتمالية إفادتهم بإصابتهم بضيق التنفس، مقارنة بأولئك المصابين بالتهاب الدماغ المؤلم للعضلات/متلازمة التعب المزمن، حسب قول كوماروف. وفضلًا عن ذلك، إذا تمكّن الباحثون في نهاية المطاف من تقسيم الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» إلى متلازمات متعددة، فإن ذلك سيضيف مزيدًا من التعقيد إلى المقارنة بين المرضين.

وفي ذلك الصدد، تقول نسرين علوان، باحثة الصحة العامة من جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة: “لقد قاومت حتى الآن تسمية الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» بالتهاب دماغ مؤلم للعضلات، أو متلازمة تعب مزمن، لأني أعتقد بالفعل أنه مصطلح شامل، وثمة الكثير من الأعراض التي تشملها الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»”، بيد أن ما يُجْمِع عليه الكثيرون هو أن الحالتين المرضيتين يمكن إجراء دراسات مثمرة حولهما بالتوازي معًا. تقول علوان: “ينبغي إبرام تحالُف بين الباحثين في هذا الصدد”. ويخطط بعض الباحثين بالفعل للتعاون معًا من هذا المنطلق. وعلى سبيل المثال، تهدف دراسة كبرى تُسمى «ديكود مي» DecodeME إلى إلحاق 20 ألف مشارِك بها، بهدف اكتشاف العوامل الجينية التي تسهم في الإصابة بالتهاب الدماغ المؤلم للعضلات، أو متلازمة التعب المزمن، وقد صرحت إيفانز بأن »مجموعة دراسة حالات كوفيد-19 عقب احتجازها بالمستشفيات سوف تشارك بياناتها مع تلك الدراسة.

وفي هذا الصدد، تعلق إكرامي بقولها: “آمل حقًّا أن يكون الجانب المشرق في نهاية المطاف هو اكتساب معرفة أفضل بالاضطرابات الأخرى التي تلي الإصابات بعدوى فيروسية”.

أما هاتسي، فتقول صراحةً: “فلنغتنم الفرص التي منحتنا إياها هذه الأزمة العصيبة”.

ما الذي يمكن فعله لمساعدة الأفراد المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»؟

في الوقت الحالي، تبدو الخيارات المتاحة في هذا الصدد محدودة نوعًا ما، نظرًا إلى أن الاضطراب لا يزال غير مفهوم جيدًا إلى حد كبير.

وحاليًّا، بدأت بلدان في فتح عيادات للمصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19». ففي ألمانيا، على سبيل المثال، بدأت شركة تُسمى «ميديان» MEDIAN في استقبال مرضى مصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» في بعض عيادات إعادة التأهيل الخاصة التابعة لها. وفي إنجلترا، رصدت خدمة الصحة الوطنية 10 ملايين جنيه إسترليني لشبكة تضم 69 عيادة؛ وقد بدأت تلك العيادات في تقييم حالات المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، ومساعدتهم في التصدي للمرض.

وتُعَد هذه خطوة أولى مبشِّرة، على حد وصف هايستي، لكنْ لا يوجد سوى القليل من العلاجات القائمة على أدلة علمية.

يشبه «سارس-كوف-2»القنبلة النووية في علاقته بالجهاز المناعي.

وعلى الصعيد الدوائي، يجري اختبار فعالية حفنة ضئيلة من العقاقير. ففي شهر ديسمبر الماضي، أعلنت شركة التكنولوجيا الحيوية «بيور تيك هيلث» PureTech Health، التي يقع مقرها في بوسطن في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، عن إطلاقها تجربة إكلينيكية لاختبار عقار «ديوبيرفينيدون» Deupirfenidone، وهو عامل مضاد للالتهاب والتليف، طَوَّرَتْه الشركة. ومن المتوقع ظهور النتائج في النصف الثاني من عام 2021. أما في المملكة المتحدة، فقد أطلقت تشارلوت سمرز، اختصاصية العناية المركزة من جامعة كامبريدج، بالتعاون مع زملائها، دراسة تُسمى «هيل-كوفيد» HEAL-COVID، وهي تهدف إلى منع الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» من إحكام قبضتها على المرضى. ومن المقرر أن يُعطى المشاركون في الدراسة، ممن احتجزوا بمستشفى لإصابتهم بـ«كوفيد-19»، أحد عقارين بعد خروجهم من المستشفى، هما: «أبِكسابان» Apixaban، وهو مضاد للتجلط، قد يقلل خطر الإصابة بالجلطات الدموية الخطيرة، و«أتورفاستاتن»، وهو مضاد للالتهابات. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، تموِّل معاهد الصحة الوطنية تجربة على عقاقير متوفرة بالفعل، يُمكّن للأفراد المصابين بدرجة طفيفة من «كوفيد-19» تناوُلها في المنزل. ومن المقرر أن تجري متابعة حالة المشاركين الصحية لمدة 90 يومًا، لاختبار تأثير العقاقير على أعراض «كوفيد-19»طويلة الأمد.

وأخيرًا، يتبقى السؤال المتعلق بالدور الذي قد تلعبه لقاحات «كوفيد-19»في هذا الإطار. فعلى الرغم من أن الكثير منها يقي من الوفاة، ومن احتمالية الإصابة الشديدة، لا يعرف العلماء بعد ما إذا كانت تقي من الآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»، أم لا.

وماذا عن تأثير اللقاحات على الأفراد المصابين بالفعل بالآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19»؟ في شهر مايو الماضي، أفادت دراسة استقصائية بريطانية، شملت ما يزيد على 800 شخص من المصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» ولم تخضع بعد لمراجعة الأقران، أن 57% من المصابين شعروا إجمالًا بأن أعراضهم خفّت حدّتها، في حين لم يلحظ 24% منهم فارقًا، وذكر 19% منهم أن حالتهم تدهورت بعد تلقي الجرعة الأولى من اللقاح. وفي شهر إبريل الماضي، أطلق فريق أكرامي استقصاء منهجيًّا، بهدف تسليط مزيد من الضوء على تلك المسألة. وتوضح أكرامي ذلك قائلة: “يحتاج الأفراد إلى تلَقِّي اللقاح، كي نتمكن من تجاوُز الوباء، لكن علينا أولًا التصدي لمخاوفهم إزاء ما إذا كان اللقاح سيفيدهم، أم أنه لن يسبب ضررًا، أم سيكون ضارًّا لهم”.

وفي الإطار نفسه، تلحِق أكيكو إيواساكي، اختصاصية علم البيولوجيا المناعية من جامعة ييل في نيو هايفن بولاية كونيتيكت الأمريكية، أفرادًا مصابين بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» ممن لم يتلَقّوا لقاحًا بعد في دراسات، كي تتمكن، بالتعاون مع زملائها، من مراقبة كيفية استجابة أجسادهم للقاحات. وتطرح فرضية مفاداها أن اللقاحات قد تخفف حدة الأعراض عبر محو أي فيروس، أو بقايا فيروسية عالقة في الجسد، أو عبر إعادة التوازن إلى الجهاز المناعي.

وختامًا، يرغب المصابون بآثار طويلة الأمد لـ«كوفيد-19» في حل ناجع لمشكلتهم فحسب. وتعقيبًا على ذلك، تقول هايستي: “كيف نحسِّن حالتنا الصحية؟ ذلك جُلّ ما نريد معرفته”.

المصدر: https://www.nature.com/articles/d41586-021-01511-z

أحوال

موقع أخباري يصدر عن شركة مدنية غير ربحية في بيروت، يقدم من خلال مساحة رقمية حرة وعصرية أخبارًا سريعة، عظيمة الثقة، لافتةً للنظر، ثريةً، وتفسيرًا للاتجاهات الحالية والمستقبلية، التي تؤثر في أحوال الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى