مجتمع
أخر الأخبار

بعد أن أعياها ميشال شيحا وأَرْدتها عصابةُ الطائف… هل يمكن إعادة إحياء الزراعة؟

في زمن انتشار جائحة كورونا والانهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ وحرائقه المتلاحقة، وبعد انسداد الأفق العام أمام مواطني هذا الكيان المنكوب، تشهد القرى اللّبنانية هبّة غير مسبوقة نحو الزراعة.

زائر الحقول والأودية هذه الأيام يفاجأ بزحمة روّاد و”فلاحين جدد” لم نر مثلها منذ عقودٍ طويلة، وتتبادر إلى الأذهان إن كانت ظاهرة عابرة و”موضة” سريعة وتنتهي أم أنّنا فعلياً أمام مرحلة جديدة من العودة إلى الأرض والإنتاج الزراعي الوطني؟.

 

تاريخية الأزمة

هذه التساؤلات تصبح مشروعة وواجبة في بلد حكمته نظرية الاقتصادي والسياسي اللّبناني الراحل ميشال شيحا 1891 – 1954 منذ عقود، وهي أصلاً المستمدّة من مشروع العالم الغربي الذي ربح الحرب العالمية الثانية وسيطر على هذه الجغرافيا المشرقية وحدد دورها: سوق لمنتجاته فقط.

ويبدو لبنان مثال ساطع للكيان المطلوب في سياسة الهيمنة الدولية، هو عبارة عن فضاء مفتوح، مشلّع الأبواب، يدمّر الصناعة والزراعة الوطنية على حساب الاستيراد من الخارج، دون الحد الأدنى من الحمائية. هو نموذج للبلد الخاضع بشكلٍ كامل لإرادة الخارج وإدارته، وكيفية تحريك “الدمى” الوطنية بما يخدم المركز الرأسمالي، ويتم ذلك إما مباشرةً أو عبر وكلاء الداخل.

وتغيب عن أدبيات منظري “اللّببنة الشيحية” عناوين مثل “الأمن الغذائي”، “الاستقلال الاقتصادي”، السيادة تبدأ بالاقتصاد “الوطني المستقل”… وهي العناوين المتعارف عليها بالحد الأدنى كأسس في علم السياسة، لتحضر بالمقابل لغة التهديدات الدائمة والتخويف بالحصار والمجاعات والعوز، والنتيجة الهرولة دوماً لاسترضاء الخارج ومؤسساته من البنك الدولي وأرباب الرأسمال العالمي وكلّ قوّة مهيمنة.

حدّد “الآباء المؤسسون” لفلسفة وجود الكيان، وعلى رأسهم “المنظّر” ميشال شيحا، مجموعة ثوابت لا جدال فيها من أجل بقائه وسيرورة حياته اليومية واستراتيجية ديمومته ووظيفته في الداخل والإقليم، وعلى رأسها أنّ وظيفة لبنان خدمية فقط لاغير، من خلال المصارف والترفيه والترانزيت واللّبناني الوسيط وحلقة وصل بين الشرق والغرب… باختصار لا داعٍ لتعب القلب والنفس في تعزيز الإنتاج الوطني على أنواعه، ولتتفرغ العضلات المفتولة لحراسة الكازينو وعلب اللّيل وبيوت التحاويل المالية ونقل البضائع من المرفأ إلى المستهلك في الداخل ومنها إلى دول الجوار بدلاً من استخدامها في نكش الحقول أو التصنيع. وقد جاءت “الحريرية السياسية” لتكمل المشروع الشيحي بنموذج رأسمالي أكثر توحشاً.

 

كيف تتم آلية التنميط؟

في سبيل تطبيق أفكار اللّبننة الحديثة كان لا بدّ من استحضار كافة الأدوات التي تخدم الفكرة، فلم يبقَ من التاريخ القديم سوى زيادة الفنيقيين بالتجارة، وإغفال الإضاءة على تقدّم الكنعانيين مثلاً بابتكار طرق وأنواع الزراعة والتي ما زالت تُستخدم حتى اليوم.

تنتقي “الفلسفة الشيحية” من عهود الإمارة الجبلية نموذجها الساطع عن تاريخية مشروعها وهي مرحلة الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572 – 1635 )، كمادة للتفاخر بفتحه علاقات مع توسكانا (الغرب)، وبنائه للنموذج الغربي بالسياسة والاقتصاد والزراعة، وبالمقابل تغيّب “الفلسفة الشيحية” ذاتها فكرة أنّ جبل لبنان كان المنتج الأوّل لصناعة الحرير، وكان الجبل وحده يملأ السلّة الغذائية لمواطنيه دون الحاجة للاستيراد بما فيها مادة القمح في حقب متعددة.

“نَظَرَّت” الشيحية لأهمية إلحاق الأطراف بجبل لبنان في إعلان الـ 1920 كبادرة إنقاذ لها من براثن “ظلم الشرق”، وتناست أنّ سهل البقاع قد شكّل إهراءات روما يوماً وأنّ طرابلس والشمال كانت بوابة دمشق ومتنفسها في حقب تاريخية طويلة. جاء احتلال فلسطين ليقطع صلة الرحم بين مزارعي الجنوب وسهول شمال فلسطين وكرومها وحمضياتها.

بعد الاستقلال جاء دور تدمير ما تبقى من الزراعة خدمةً لأهل التجارة، وعملت المنظومة على تشجيع الخصخصة والتخصص، مثلاً خصخصت المناطق والأنواع فقد أُدخلت زراعة الحشيشة والمخدرات لتقضي على الزراعات التقليدية في البقاع الشمالي، زراعة الشمندر السكري في البقاع الأوسط، شجعت زراعة التفاح فقط في الجبل، زراعة التبغ في الجنوب والحمضيات على الساحل، وتحوّلت ضفاف الأنهار إلى مطاعم ومقاهٍ تسهم في تلويث وتدمير المناطق الخلّابة…. هذه التخصصية الفوضوية دمّرت تنوّع الزراعة وأنهت السلّة الغذائية المتكاملة وربطت المزارع بسوق لا يستطيع مجابهته او “الموْنة” عليه، وبالتالي بعدما تراجعت هذه المنتجات وقع المزارعون في أزمة “هوية إنتاجية” فتركوا قراهم وتوجهوا ناحية ضواحي العاصمة، وهناك للحكاية تفاصيل أخرى.

 

منهج الاعلام “الشيحي” اليوم: المزارع “أهبل”

Al Akhbar

ما يلفت الانتباه جداً هو عملية تنميط صورة المُزارع في إعلام “الإقتصاد الحر اللّبناني” وتوحيد النموذج، فالمناطق الزراعية اللّبنانية هي بؤرة تخلّف، رجعية، فقر، اضطهاد للمرأة، ظلم بحق الطفولة، جرائم شرف، بيئة خصبة لانتشار الأمراض والأوبئة، خروج عن سلطة الدولة الرسمية، غياب المدارس والتعليم، مصدر قلق لسلطات العاصمة، بيئة حاضنة للقوى الإقليمية أو للمنظمات العسكرية، مناطق تهريب وفرار للمطلوبين…. .

وصورة المُزارع أنه ذاك الإنسان “القادم من الجرد”، هو غالباً رجل ستيني يعتمر قبعة أو لبّادة مع شاربين كثين، ينبهر “بالمدينة”، يتحدث بنزق ويتصرف بغباء. لا يخلو برنامج فكاهي من تعمد تقديمه بالصورة النمطية هذه على أنه رجل قديم في عصرنا عديم الفائدة، لكنّ اللّبناني النموذجي “الغربي” ذات صفات إنسانية “فذة” يتعامل معه بحنان ورأفة كونه من سكان البلاد الأصليين المحتاجين للتحديث والتطوير ولو ببعض الفتات.

في صورة أخرى كمثال أشدّ وقعاً وفتكاً في تدمير الزراعة، تعرض وسائل الإعلام إعلاناً لإحدى الشركات الأجنبية تبيع المنتجات الزراعية المعلّبة، والإعلان يصوّر وصول مزارع تقليدي ذي “القبعة والشاربين” إلى “سوبرماركت” في ضواحي المدينة محملاً شاحنته بصناديق منتجاته الزراعية الطازجة، ليبادلها ببضعة عبوات من هذه “المعلبات الأجنبية” ويخرج فرحاً كالأطفال، كأنه سيناريو يحاكي قصة “سام والفاصوليا” عند الأطفال ولذة الاكتشاف المجاني أو الربح السريع. فأي قوانين هذه التي لا تحمي الاقتصاد الوطني؟ وكيف تسمح الرقابة بمثل هذه “الجريمة” الوطنية؟.

 

خلاصة

من حيث المبدأ، عملت فلسفة الآباء المؤسسين على تنميط النظرة باتجاه “المُنتج” و”المنتَج” الوطني على أنّه الأسوأ والأدنى وكل “فرنجي برنجي”، وجعلت المزارع والزراعة في مستوى الأدنى اجتماعياً واقتصادياً ومنعت تطوره وتطور العاملين فيه. وهمّشتْ الريف إلى درجة التجويع والإذلال، على حساب صورة المدينة المتلألئة بالأنوار، وسنّت القوانين المجحفة بحق القطاع الأساسي في البلاد وفتحت الأجواء والأسواق أمام الأجنبي في منافسة غير متناسبة مع قدراته المحلية على المواجهة.

وفي ظل الأزمات المتلاحقة التي تعصف بلبنان والمنطقة على كافة الصعد، تبقى الزراعة مادة صلبة للبناء عليها، فهل يمكن المواجهة عبر طرح بدائل ممكنة وعقلانية؟ وهل يمكن إعادة الاعتبار لعناوين سابقة من قبيل الاستقلال الاقتصادي، خطر الرأسمالية المتوحشة، الإنتاج الوطني، الاكتفاء الذاتي؟ مزارع مكفي سلطانٌ مخفي، وهل تكون الزراعة بديل حقيقي وواقعي ينقذ ما يمكن إنقاذه؟.

الأمر يحتاج لجهد كبير بعد التخريب المتواصل منذ عقودٍ طويلة، ولكن يمكن العمل انطلاقاً من واقع اليوم والتطورات التي لحقت بعمليات الإنتاج، لكن لا مناص من إعادة الاعتبار للزراعة وهي قاعدة الاقتصاد الحقيقي…

وللحديث تتمة

عامر ملاعب

عامر ملاعب

كاتب وصحافي لبناني، يحمل شهادة الدبلوم في التاريخ من الجامعة اللبنانية، عمل في صحيفتي الأخبار والحياة. أعد وقدم برامج في قناة الثبات الفضائية، وإذاعة صوت الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى