سياسة
أخر الأخبار

ترسيم الحدود البحرية بأمر العقوبات الأميركية

ينتظر اللّبنانيون تشكيل الحكومة العتيدة وفق أحجام وحصص الفرقاء السياسيين، لكن العالم يصوّب نحوها ضمن آلية شروط وتهديدات وعقوبات ومفاوضات تحت النار. والطبق الرئيسي فيها أمن دولة إسرائيل ورخاءها!.. المصلحة الإسرائيلية في صلب سياسة الإدارة الأميركية ليست أمراً طارئاً لكنها باتت محوراً أساسياً ضمن ملفاتها في المنطقة مع مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فمنذ أكثر من ثلاث سنوات قدّم ترامب لإسرائيل ما لم يفعله أي رئيس أميركي آخر ففتح لها الآفاق والأجواء العربية، وصولاً إلى ملف ترسيم الحدود مع لبنان الذي فاجأ اللبنانيين وآثر المسؤولين الصمت حول نشر تفاصيل الخطوات المنجزة إلا لماماً.

رمت الإدارة الأميركية هذا الأسبوع بعقوبات طالت الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، وبالتوازي أعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر أنّ “المحادثات التي تجري بوساطة واشنطن لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل تحرز “تقدّماً تدريجياً”، مبدياً أمله بتوقيع اتّفاق إطار في غضون أسابيع يتيح للبنان وإسرائيل البدء في مفاوضات لحلّ هذا النزاع”. ما اعتُبر رسالة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، الممسك بملف الترسيم، لتليين موقفه الصلب في ملف ترسيم الحدود البحرية والبرية.

ويقول مصدر نيابي لـ “أحوال” إنّ “بري مفاوض كرئيس مجلس نواب وبتكليف من حزب الله بملف ترسيم الحدود، والعقوبات التي طالت معاونه السياسي لا تخرج من إطار الضغوط عليه لسحب الملف من يده ووضعه على طاولة رئاسة الجمهورية”.

ملف الترسيم الذي أثاره الجانب الأميركي بشكل ملح في الأشهر الماضية خلال زيارات مكوكية لمسؤولين أميركيين إلى لبنان، “بات قريباً من الإنجاز ووضع اللّمسات الأخيرة عليه”. بحسب شينكر الذي أكد في تصريحات لصحافيين لبنانيين “أتطلّع إلى الانتهاء من اتفاق الإطار لكي تتمكّنوا مع الإسرائيليين… من المضي قدماً نحو التفاوض حول حدودكم”. وأضاف مساعد وزير الخارجية الأميركي: “آمل أن أتمكّن من العودة إلى لبنان وتوقيع هذا الاتفاق في الأسابيع المقبلة”.

 

إصرار أميركي وصمت لبناني

إذاً “الترسيم” هو العنوان الأبرز في ملف التسوية الكبرى في المنطقة رغم الصمت اللّبناني. وإسرائيل تستغلّ أزمة لبنان الاقتصاديّة للضّغط باتّجاه إعادة التّفاوض على ترسيم الحدود. فكيف تقدمت المفاوضات؟ وعلى أي أسس؟ وما هي بنود الملف اللّبناني؟ الأجوبة على هذه الأسئلة بقيت مبهمة للرأي العام اللّبناني وحتى لعدد كبير من المسؤولين. إلّا ما أعلنه رئيس المجلس النيابي نبيه بري عن تقدم في المفاوضات في شهر آب الماضي.

لكن ما لم يُصارح به المسؤولون اللّبنانيون سيُتكشف خلال عودة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر إلى بيروت للمرّة الثانية في أقل من شهر في مهمة محددة لاستئناف الوساطة الأميركية لحسم الخلاف الحدودي البحري والبري بين لبنان وإسرائيل بعدما وضع صيغة للحل، هذا ما يؤكده الإعلام الأميركي والإسرائيلي.

مضى على مشاريع ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وفلسطين المحتلّة سنوات، فمنذ العام 2000، تاريخ ترسيم الخط الأزرق قُدِّمت ملاحظاتٌ حول تجاوز إسرائيل 13 نقطة على حدود لبنان البرية، ورفض لبنان خططاً أميركية للترسيم البحري منذ العام 2008، أفقدته حوالي 860 كيلومتراً من المنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة.

 

إشكالية مستعصية

تتمثل إشكالية ترسيم الحدود البحرية اللّبنانية بأن هناك اعتداء واضحًا من العدو الإسرائيلي على 863 كلم مربع، والتلويح بالعقوبات من أجل التنازل عن الملف يؤكد أنه لا فرق بين العقوبات والاستعمار والاحتلال والفساد.

وتمسّك لبنان بشروطه في ملف الترسيم، هو تمسّك بمساحة 863 كلم منطقة اقتصادية خالصة من حق لبنان والشعب اللّبناني، وقد أعطى الاتفاق التقني لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البِحار عام 2006 الحق للبنان في 1350 كلم داخل المياه الإقليمية للأراضي المحتلة.

اقترح الموفد الأميركي إلى لبنان فريدريك هوف عام 2012 تقاسم المنطقة المتنازع عليها بين لبنان و”إسرائيل” عند الحدود البحرية الجنوبية، راسماً ما سمّي لاحقاً بـ “خطّ هوف”. ويقسّم الخط مساحة الـ 860 كلم 2 البحرية المتنازع عليها إلى قسمين بحيث يُعطى للبنان مساحة 500 كلم مربع، ولـ”إسرائيل” مساحة 360 كلم مربع، أيّ أنّه يقضي بالسماح للبنان باستثمار بين 55 و60% من المنطقة المتنازع عليها مع إبقاء الباقي معلّقاً حتّى ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” بشكل رسمي، لكن لبنان ممثّلاً برئيس مجلس النواب، نبيه برّي، رفض يومها اقتراح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الذي زار لبنان مروّجاً للقبول بـ “خطّ هوف”، باعتباره يعطي تل أبيب من حق لبنان على كامل مساحة الـ860 كلم2، فضلاً عن تأكيد دراسات دولية جديدة أنّ حق لبنان يزيد عن هذه المساحة ليقارب مساحة 1350 كلم2.

بعد فشل مهمتي وسيطين أميركيين سابقين هما كريستوفر هوف وعاموس هولكشتاين في السنوات الماضية لإحياء المفاوضات اللّبنانية الإسرائيلية من جديد، تدخل مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى دافيد ساترفيلد منذ مطلع أيار من العام 2019 فنشطت زياراته المكوكية بين لبنان والأراضي المحتلة لكنّه لم ينجح في التوصل إلى آلية نهائية للمفاوضات، تلبي الشروط اللّبنانية التي طلبت ترسيماً متوازياً برياً وبحرياً برعاية الولايات المتحدة الأميركية لمفاوضات غير مباشرة، ودون تحديد مهل بين الطرفين في مقر قيادة القوات الدّولية في الناقورة.

الرئيس السابق لوفد لبنان المفاوض حول الحدود مع إسرائيل اللّواء المتقاعد عبد الرحمن الشحيتلي يقول إن أي اتفاق حدودي لن يكون دستورياً قبل إبرامه من مجلس النواب. وأنّ تحريك الملف من قبل الأميركيين جاء بعد توقيع لبنان عقداً لبدء استخراج الغاز في البلوك رقم 9 جنوباً، والعمل على إطلاق عمليات التلزيم لبلوكات أخرى، ما يعني انتهاء مفعول ورقة “منطقة متنازع عليها” لمنع لبنان من الاستثمار في 860 كلم من منطقته الاقتصادية، لأن منع الشركات من تنفيذ عقودها في بدء الاستثمار في البلوكات الحدودية الجنوبية، سيؤدي إلى منع الشركات من الاستثمار في البلوكات من الجهة المقابلة بالقانون أو بالقوة إذا لزم الأمر. لذلك تبتغي إسرائيل التوصل إلى ضمان مناخ آمن للاستثمار، فيما تتعنت في إعطاء لبنان حقوقه.

ترسيم الحدود بات أمراً محتوماً على طاولة لبنان وهو حلم إسرائيلي قديم، ففي سنة 1919 قدّمت الوكالة اليهودية إلى مؤتمر الصلح مذكرة من 14 صفحة تحدّد فيها مطالبها، في الصفحة الثالثة تحت عنوان حدود فلسطين التالي يرد التالي: “شمالاً من منطقة على المتوسط جنوب صيدا وتتجه شرقاً لتشمل منابع المياه وادي التيم وجبل الشيخ”. لهذا يُعد ترسيم الحدود، ما لم يكن في إطار قانوني برعاية دولية، خطوة لقضم تدريجي من قبل إسرائيل.

 

مفاوضات وأفخاخ

لبنانياً، الموقف موحّد حول هذا الاشتباك الحقوقي، فلا تنازل عن الحق في استعادة الحدود البحرية والبرية وهذا الموقف كان قد أبلغه بري إلى وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خلال لقائه به في بيروت. وفي ذلك اللّقاء أكدّ بري على الموقف اللّبناني لجهة ضرورة رعاية الأمم المتحدة المفاوضات، وضرورة تلازم مساري الحدود البحرية والبرية لما في ذلك من تأثير على الاستقرار في المنطقة.

اتفاق شامل أو لا اتفاق، هذا جوهر الموقف اللّبناني الذي ردّده مستشار بري علي حمدان خلال لقائه شينكر الشهر الماضي.

ترسيم الحدود بالنسبة إلى الإسرائيليين يأتي ضمن استكمال سلسلة إجراءات على الحدود البرية من بناء الجدار والتحصينات الأمنية والعسكرية قبل سريان “صفقة القرن” وتحسباً لتداعياتها على مشروع استخراج الغاز الذي بدأت الاستعدادات له.

مسيرة المفاوضات مليئة بالأفخاخ خاصة حين يتعلق الأمر بإسرائيل، الموقف اللّبناني الرسمي واضح عبر التمسك بالحقوق الوطنيةـ لكن نار التهديدات الأميركية بالعقوبات وترك البلد فريسة الفوضى والانهيار والإفلاس تهدّد صلابة الموقف.. هل سينجح لبنان في نيل حقوقه الكاملة ويكسر التعنت الإسرائيلي؟ الأيام المقبلة ستكشف عن ذلك لأن الأميركي لا يملك ترف الوقت لانتظار مفاوضات طويلة ويريد أن يقدم إنجازه الكبير قبل الانتخابات الرئاسية.

رانيا برو

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى