منوعات

تعبرها الطيور ويملكها ملك وتسكنها الجنيّات… تعرّفوا على هذه البلدة الجنوبية

صنفت بلدة نموذجية وتحتوي على أكبر حرج في منطقتي مرجعيون وبنت جبيل

على يمين العابر من مدينة مرجعيون إلى منطقة حاصبيا، مشهد أخضر لافت ومتميز لبلدة ترتفع نحو 650 متر عن سطح البحر، يعلوها حرج صنوبري كبير فوق بيوت يطغى عليها الطابع المعماري القديم. ويشمخ فوقها جبل الشيخ المكلّل بالثلج الأبيض خلف سحاب خفيف متناثر. على مدخل تلك البلدة أوتيل يقصده السياح من الزائرين لتلك المنطقة، وهو الأوتيل الوحيد الذي يستطيع إيواء الزائرين خلال السنوات الماضية، في منطقة مرجعيون، باستثناء أوتيل صغير آخر في بلدة القليعة، وشاليهات صغيرة شيّدت في بلدة الخيام… إنّها بلدة ابل السقي.

مشهد البلدة المتميّز من الخارج يفوقه تميّزًا مدخل البلدة وأزقتها القديمة. فالمدخل واسع ومعبّد تحيطه أشجار الكينا من جانبيه مع أرصفة جميلة ونظيفة تدلّ على اعتناء بلدي منظم وثقافة بيئية رائدة للأهالي. حمى الطيور المهاجرة هو أكثر ما تشتهر به البلدة، التي يجعلها موقعها الجغرافي ممرًا أساسيًا للطيور المهاجرة، حيث صنّفت عالميًا الممرّ السادس عالميًا للطيور المهاجرة، ما جعل من الجمعيات الدولية والمحليّة إضافة إلى مجلسها البلدي يهتمون بهذه البلدة اهتمامًا خاصًا للحفاظ عليها كممرّ دائم للطيور المهاجرة. فالصيد ممنوع على الإطلاق وانشئت بركة مياه، تعرّضت للقصف أثناء حرب تموز ما جعلها بحاجة إلى إعادة ترميم، وسط حرج الصنوبر الكبير لجذب الطيور واستجمامهم، تقصدها مئات الآلاف من الطيور المهاجرة مرتين في السنة (صيفًا وشتاءً). حمى ابل السقي أصبح حقيقة واقعية على الأرض تساعد في ترويج السياحة البيئية، وعملت جمعية حماية الطبيعة في لبنان إلى القيام بأنشطة بيئية وتنظيم الصيد البرّي لخدمة القطاع السياحي الذي من شأنه خلق فرص عمل جديدة بالشراكة مع وزارتي السياحة والبيئة.

إن ما يزيد عن مليون طائر لا يزال يمر بانتظام من هذا الممر الرئيسي منذ ملايين السنين، ونظرًا لطبيعة الأرض الخلّابة، فإنّ هذه الطيور تتجمّع فوق بعض هذه المناطق في أعداد هائلة (ما يعرف بمواقع عنق الزجاجة)، وذلك لاعتمادها على التيارات الهوائية المتشكّلة فوق الأودية، ما يجعل هذا الممرّ في لبنان بالذات واحد من أهم، ممرّ لهجرة الطيور المحلّقة في العالم. ومن هنا تأتي الأهمية العالمية لمنطقة وادي الحاصباني واللّيطاني و”حمى ابل السقي” التي تشكل إحدى بوابات الشرق والغرب إلى أفريقيا. حسب ما ذكر في منشور خاص بالطيور المحلقة في لبنان والتي تعبر حمى ابل السقي.

بالقرب من حمى الطيور، ومنذ عدّة سنوات أنشأت جمعية مرسي كور بالتعاون مع المجلس البلدي لإبل السقي ” بيت الفلاح” القديم، الذي يمثل نمط الحياة القديم لأبناء ابل السقي، وهو عبارة عن منزل حجري، مسقوف بالطين من الخارج، والقصب الخشبي من الداخل، وضعت داخله أغلب الأدوات المنزلية التي كانت تستعمل سابقًا. وهذا المنزل هو شبيه بمنزل سابق كان يقبع مكانه عشرات السنين، تهدم في الثمانينات من قبل العدو الاسرائيلي. وقد قامت بعض الجمعيات أيضًا ببناء قاعة للاجتماعات، وأخرى لمكتبة عامة، بالقرب من الحمى. ومن أهم الطيور التي تقصد الحمى أثناء عبورها، طيور الوزّ والبط وعقاب البادية وباشق العصافير وحوام النحل واللّقلق الأبيض والسمن والفرّ وغيرها.

ابل السقي بلدة قديمة جدًا، يسكنها المسيحيون، خاصة الأرثوذكس، والدروز، كانت تعتمد سابقًا على زراعة الزيتون والتين والعنب والحبوب، هجرها العديد من أهلها، منذ مئات السنين، خاصة إلى البرازيل التي يقطن فيها أكثر من 5000 نسمة من  المتحدرين من أبناء ابل السقي. عدد السكان المدونين في النفوس يقارب 3500 نسمة، يقيم منهم نحو 1500 نسمة. حرج البلدة كبير تم نصب أشجاره من قبل الدولة منذ نحو أربعين عامًا، وهو من أشجار الصنوبر على امتداد نحو 500 ألف متر مربع، أضاف عليه المجلس البلدي بزراعة ما يقارب 4000 شجرة منذ ثلاث سنوات. “المجالس البلدية المتعاقبة وأبناء البلدة اهتموا بتوسيع الطرقات والمحافظة على الأشجار المزروعة، فالناس هنا يهتمون بالطبيعة والبيئة” يقول مختار البلدة السابق سليمان الجذع، ويضيف “الكتيبة الأسبانية شقّت طريق زراعي يوصل إلى الحرج لتسهيل عملية إطفاء الحرائق إن وقعت”.

وتشتهر البلدة أيضًا بوفرة مياهها العذبة، فإضافة إلى نبع إبل السقي الشهير يوجد 4 عيون ماء و15 عشر بئر ارتوازي تمّ انشاؤهم على أيدي الدولة وأبناء البلدة، يستخدم منهم ثلاثة آبار للزراعة وواحد للشفة وآخر للري من قبل أبناء القرى والبلدات المجاورة، أما الباقي منها فهي مقفلة ولا حاجة الآن لاستخدامها. ويظهر المختار الجذع أنّ “المقيمين هنا أصبحوا يعتمدون على الوظائف العامة والتجارة وبعض المهن، إضافة إلى أنّه يوجد أكثر من 70 موظفًا يعملون لدى قوات اليونيفل، أمّا الزراعة فهي للمتعاقدين ولمن يجد وقت فراغ أو تسلية”.

تعرّضت ابل السقي على مدى سنوات الحرب للاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، ففي الثمانينات قصفت البلدة لأكثر من مرّة وتهدّم الكثير من بيوتها الحجرية القديمة المكلّلة بالقرميد الأحمر، ما ساهم في انتشار البيوت الحديثة من الباطون المسلّح، رغم أنّ بعض الأهالي أعادوا ترميم بيوتهم الحجرية. فقد عرف أبناء البلدة بانتمائهم للأحزاب الوطنية المناضلة والمحاربة للاحتلال، فكان ذلك سببًا لتعرّض البلدة للكثير من الاعتداءات الإسرائيلية. فأوّل شهيد سقط في البلدة اسمه غسان الصباغ، الذي قتل على أيدي الفرنسيين، وهو كان تربطه علاقة صداقة مع الرئيس رياض الصلح، الذي قصد قبره في البلدة بعد إعلان حكومة الاستقلال. ومن أبناء البلدة المشهورين شيخ الأدب الشعبي الأديب سلام الراسي الذي قدّم للمكتبة العربية 16 كتابًا أصبح بعضًا منها يدرس في المدارس.
في البلدة ما يعرف بـ “القبية”، وهي رابية تشرف على نبع البلدة لجهة الجنوب وتطلّ على فلسطين، يحدّها من الشرق نهر الحاصباني أحد روافد نهر الأردن، ومن الغرب الوادي الذي يفصلها عن نبع ابل، ومن الشمال التلّة التي تقع عليها إبل الحالية، ومن الجنوب مجرى نبع إبل ويدعى بالحلاّلي. وقد أجمع علماء الآثار أنها كانت مأهولة منذ ايام الرومان، إلاّ أنّ سكّان هذه الحقبة لم يكشف عن هويتهم وحضارتهم بل هي سرّ دفين حتى اليوم، وتدلّ الحفريات على أنّها كانت قرية يملكها ملك، عامرة بمنازلها وأسواقها ومحترفاتها، ومعابدها الوثنية، قصصها ميثولوجية، والحكايات عنها أسطورية بامتياز فيها عجب العجاب والدهشة والتساؤل والرهبة الموحشة… وممّا قيل عنها، أنّ غصن الزيتون الذي حملته الحمامة يوم طوفان نوح، أُخذت من زيتون “القبيبة” كبشارة للنجاة من الغرق، أمّا جنيات القبيبة اللّواتي لا زلن ساكنات فيها حتى اليوم فلهنّ صداهنّ في “محافر وادي العين” ومغاوره الدهرية؛ في حين يبقى الصدى لحرّاس الجان لكنوزها المرصودة حيث يحرسها عبد أسود على مدخل مغارتها التي تحتوي الكنوز الدفينة وتظللها شجرة الجوز العاتية في قدمها: إنّها مغارة الملك التي يحرسها جنيان جسمهما مطليان بزيت الكافور ومدججان بالسلاح، وتحت أقدامهما بئر من ذهب. وفق ما نشر في موقع الجيش اللّبناني.

ترتفع ابل السقي عن سطح البحر 650 مترًا ويحدّها من الغرب بلدات:  جديدة – مرجعيون، دبين وبلاط، ومن الجنوب مزرعة سردة، ومن الشرق الميري ومجرى الحاصباني، ومن الشمال بلدة كوكبا.

أهم زراعات البلدة هي زراعة الزيتون، إذ يزيد عدد شجرات الزيتون فيها عن 20 ألف شجرة، إضافة إلى الحبوب على أنواعها، حتى أنّه وخلال الحرب العالمية الأولى كانت القوافل تأتي من حوران لتتموّن من قمح البلدة.

 

داني الأمين

 

 

داني الأمين

صحافي وباحث. حائز على اجازة في الحقوق من الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى