منوعات

ديدان تنتج “الذهب الأسود”… سمادٌ عضوي لزراعة مستدامة!

هي أكبر من مبادرة، أطلقها المزارع “ڨاروج باكاليان”، كونها جاءت لتكرّس قيمًا جديدة في مجال الاستدامة والزراعة العضوية، خصوصًا أن هذا النوع من المبادرات لم يعد نوعًا من الترف والغلو، بل صار نهج حياة ومسارًا عامًا على مستوى العالم. فالصحة أولًا، ومثل هذا الشعار يقتضي العودة إلى الجذور، إلى الطبيعة الأم، لنتعلم منها أن ثمّة توازنًا لا بدّ من الحفاظ عليه واحترامه، لأن أحدًا لا يريد بعد اليوم أن يعيش في “بيئة كيميائية” سامّة ومسرطنة.

منذ خمس سنوات بدأ باكاليان العمل في قطعة أرض صغيرة، بتربية نوع من الدود المهجن لينتج منه، عبر آلية طبيعية، سمادًا عضويًا يتّسم بخواصٍ مميزة، بيئيًا وصحيًا، والأهم أنّه لا يمكن أن يتسبّب بحرق النباتات أو بانفجارات، كما هو الحال مع “نيترات الأمونيوم” التي تُعتبر سمادًا كيميائيًا، ولكن تُستخدم في الوقت عينه لصناعة المتفجرات.

سماد عضوي

وكالعادة في لبنان، ومن أجل أن يستمر المرء في تأمين عيش كريم له ولعائلته، عليه أن يمارس أكثر من مهنة. فباكاليان الذي كان يعمل في الحدادة وتركيب القرميد لبيوت ومنازل لبنان التقليدية، مارس أيضًا مهنة الزراعة، حيث استثمر في مشاريع زراعية في مناطق متعددة من لبنان. ومنذ 8 سنوات وبالصدفة، خلال بحثه على الإنترنت، تعرّف على السماد العضوي باستخدام دود ذات خواص معينة، يُسمّى Californian Red Wiggler واسمه العلمي Eisenia fetida، وهو نوع مهجن يتكاثر بسرعة، تم اكتشافه في جامعة كاليفورنيا، ويتميّز بقدرته الكبيرة على تحليل المواد العضوية.

باكاليان الذي تفرّغ في السنوات الأربع الماضية للعمل في إنتاج الـ Worm Casting وهو سماد عضوي ذات خصائص مميزة للغاية، ناتج عن استهلاك الديدان للمواد العضوية، قال في حديث لموقع “أحوال ميديا”: “خلال هذه السنوات كان هدفي إكثار هذه الديدان بغرض توزيعها على عدة مساحات لتتمكن من إنتاج السماد العضوي وبكميات كافية، وحاليًا توصلت إلى إنتاج خمسة أطنان من هذا السماد”، لافتًا إلى أنه من المتوقع أن يرتفع الإنتاج إلى أربعة أضعاف في حال وُجدت المساحة الكافية للديدان لتتمكن من استهلاك المواد العضوية وانتاج السماد.

من هنا، أشار باكاليان إلى أن هذه الديدان تتغذّى على كافة المواد العضوية الناتجة عن الاستهلاك المنزلي، من خضار وفواكه وكرتون وشاي وقهوة وورق وقشر بيض وغيرها، في حين يُمنع إطعامها اللحوم ومنتجات الحليب على أنواعها، لافتًا بالمقابل إلى أنها لا تأكل البذور الحية، أي عند وضع النفايات العضوية المحتوية على بذور، تقوم بأكل ما هو ميت فقط. من جهة أخرى، وبحسب باكاليان، تتميّز هذه الديدان بقدرتها على هضم المواد التي تتراكم من الصرف الصحي الناتج عن محطات التكرير، أي Organic Sludge، إلا أنها لا يمكن أن تعيش على عمق يتجاوز 20 سنتيمترًا.

الذهب الأسود

وفي ما يتعلّق بما تنتجه هذه الديدان، قال باكاليان: “يسمونه الذهب الأسود أو Black Gold نظرًا لخواصه المفيدة ولمكوناته الغذائية الهامة للنباتات على أنواعها”، مشيرًا إلى أنه بعكس السماد الكيماوي، فوضع كميات كبيرة منه لا يضرّ النباتات، إذ يحتوي على أكثر من 3500 نوع من البكتيريا المفيدة، كما أنه يحافظ على جذور النباتات ويعزّز المناعة، لتظهر نتيجة تلك المواد خلال مهلة تتراوح بين أسبوع و10 أيام.

أما عملية الإنتاج، يتابع باكاليان، فتجري بعد أن تتغذى الديدان على المواد العضوية، سواء طازجة او مسبخة، حيث يتم تقطيع النباتات وتسبيخها لتتمكن تلك الديدان من هضمها بصورة أسرع، وتبدأ بعدها بعملية التكاثر لتنتج المئات من البيض التي تفقس خلال شهرين، وتتزاوج بعد ثلاثة أشهر من فقسها، فتنتج في السنة ما يقارب 1500 دودة، تعيش حوالي 4 سنوات، لكنها تنفق بعد ذلك ويتم استهلاكها كمواد عضوية من قبل الديدان الأخرى.

وفي فصل الشتاء، يوضح باكاليان، “تحتاج هذه الديدان الى التدفئة، لذا نضعها داخل بيوت بلاستيكية ونوفر لها الجو المناسب، لكي تتكاثر وتستطيع استهلاك المواد العضوية على أنواعها”.

صعوبات وتحديات

تحديات عديدة واجهها باكاليان خلال عمله على هذا المشروع، أبرزها أزمة تفشي فيروس كورونا في لبنان، إلى جانب الأزمة الاقتصادية والكوارث المستمرة في البلد، والتي أثرت على قدرة المزارعين الشرائية رغم اقتناعهم بهذا المنتج ونتائجه الرائعة. من هنا، ومراعاة لأوضاع الناس خصوصًا الاقتصادية منها، عمد باكاليان الى تخفيض الأسعار، رغم أن هذا الأمر قد يؤخر عملية التوسع في مشروعه، خصوصًا في ظل غياب التمويل والدعم المادي من الدولة والبلديات والجمعيات المعنية.

الشدياق: دورة اقتصادية صحية

طوني الشدياق، وهو أحد المزارعين من مدينة جبيل، الذي يقوم بشراء السماد العضوي من باكاليان وبأسعار مناسبة، قال في حديث لموقعنا: “أزرع عضويًا منذ سنوات عدة وفي مناطق مختلفة من مدينة جبيل وعلى ثلاثة ارتفاعات، وبهذه الخطوة يمكنني زراعة منتجات مختلفة عدة مرات في السنة، علمًا أن الزراعة العضوية كانت في البداية تكلّف أقل من الزراعة التقليدية بنسبة تصل إلى 60 بالمئة، ولكن التكلفة اليوم باتت مماثلة أو حتى مرتفعة بعض الشيء، نظرًا للزيادة المطردة في أسعار المواد الأولية المستوردة، مثل Humic Acid, Fulvic Acid والطحالب والأعشاب البحرية وغيرها، ونتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية، فأصبحت تكلفة الانتاج تفوق الأرباح”.

من جهة أخرى، فإن مهارة باكاليان في هذا المجال وشغفه بالزراعة العضوية، جعله أيضًا يقدّم خبرته لعدد كبير من الطلاب الذين يرغبون بالتعرّف أكثر على الأرض وما تحمله من خيرات ومنتجات، لذلك، وبطلب من مدير الثانوية الأرمنية الإنجيلية، راعي الكنيسة الإنجيلية في عنجر، القس هاغوب أكباشاريان، تم التعاون مع باكاليان ليعرّف الطلاب على كيفيّة استخدام Worm Casting كسماد عضوي، ويشرح لهم مدى أهميتها وفائدتها للطبيعة والبيئة بشكل عام، بعكس المواد الكيميائية التي يمكن أن تسبب التلوث وتلحق الأضرار بالبيئة.

فكرة التعاون هذه، وبحسب ما قال القس أكباشاريان لموقعنا، جاءت ضمن برنامج Agricultural Hands On الذي أقامته المدرسة بعد أن لاحظت عدم وجود أي علاقة تربط بين الطالب والأرض، علمًا أن مدخول معظم أهالي قرية عنجر مبني على الزراعة، إلا أن الطلاب يعتقدون أن عمل أهاليهم هذا قد مر عليه الزمن وهو عمل غير متحضّر، لذلك رأت إدارة المدرسة أن من واجبها إعطاء الطلاب المجال ليعرفوا عن الزراعة، ليس الأمور النظرية في صفوف العلوم فحسب، بل التوسّع للتعرف على الأمور بصورة عملية وتطبيقها على الأرض.

وانطلاقًا من هذا المبدأ، تابع القس أكباشاريان: “بدأنا قبل حوالي ثلاث سنوات بالأمور البيئية ومبادئ التخفيف Reduce، إعادة الاستعمال Reuse والتدوير Recycling، وأخذنا نحث الطلاب على تقليل النفايات Reduction of waste وكيفية التعامل مع النفايات في المدرسة والمنزل، ومن هنا أتت فكرة برنامج Agricultural Hands On، أي إدخاله ضمن البرنامج الأكاديمي، حيث يتعلّم الطلاب الزراعة بشكل أعمق، مع التعرف على جميع التقنيات الحديثة واستعمال الكيمياء والفيزياء ضمن المفهوم الزراعي، كما قمنا بتأسيس مشتل زراعي مدرسي لتطبيق عملي، وخلال أقل من شهرين، استطعنا ملاحظة تغيّر منظور الطلاب للبيئة، حيث بدأوا بالعناية بها أكثر، خصوصًا بعد أن لمسوا بأنفسهم نتيجة العمل وقيمة الأرض والزراعة”.

ورغم النتائج المثمرة التي حصدها هذا البرنامج، بحسب ما أكد القس أكباشاريان، إلا أنه ونتيجة اندلاع انتفاضة 17 تشرين وما تبعها من أحداث وأزمات طغت على الوضع العام في البلد، وأبرزها أزمة انتشار فيروس كورونا، اضطرت المدرسة لتوقيف البرنامج، آملة أن يكون لديها خلال ثلاث سنوات منهاجًا متكاملًا في هذا الخصوص، تتبناه مدارس أخرى مع الحصول على التمويل اللازم للمشروع من أجل تطويره بصورة أكبر.

سوزان أبو سعيد ضو

سوزان أبو سعيد ضو

ناشطة وصحافية لبنانية. مجازة في التحاليل البيولوجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى