منوعات
أخر الأخبار

الضيف يطرد المسؤول اللّبناني: غابت الأحزاب فحضرت جيوش الــ NGOS

تعدّت مفاعيل الانفجار ما تركته من آثار على الحجر والبشر وأبعد من الحيطان والزجاج وجثث الشهداء، إلى أن يشكل محطة فارقة في تاريخ لبنان الحديث، ويكشف عورات النظام السياسي والاجتماعي.

في مشهد سوريالي لا تراه إلّا في لبنان، وأمام وسائل الإعلام يصل مسؤول غربي إلى الكرنتينا متفقداً الأضرار ويوزع بعض المساعدات، ليصل بعده بدقائق أحد “مسؤولي الدولة الإداريين” يتقدمه رهطٌ من رجال الحماية.

تبادل الرجلان السلام والصور السريعة ليبادر المسؤول الغربي بالطلب من “الموظف اللّبناني” المغادرة “لأنّنا نرفض وجود أي ممثل للسلطة هنا، نحن هنا مع المجتمع المدني ومتطوعي الجمعيات الأهلية” وهكذا كان.

العورات التي كشفها الانفجار عديدة، ولكن أهمّها تبيان حقيقة نهاية الأحزاب السياسية بعدما أُفرغت الحياة السياسية من قيمتها الأخلاقية والعلمية. وإذا كان تعريف الحزب السياسي (بالإنجليزية: Political party)‏ بأنّه تنظيم اجتماعي قائم على مبادئ وأهداف مشتركة وتوسيع قاعدتها الشعبية بغية الوصول إلى السلطة”، فإنّ الواقع اللّبناني قد اختلف كلياً، والأمر طبعاً يحتاج إلى دراسات ميدانية وأكاديمية معمّقة، تستخدم كل علوم الحياة لتفسير وفهم هذه الظواهر.

في الواقع تبدو الحياة السياسية اللّبنانية الفارغة، قد أكلت العمل الحزبي وحوّلت الأحزاب إلى مجرد هياكل عظمية تقدس الزعيم ينحصر عملها كماكينة انتخابية فقط.

لم نعد نقرأ ونسمع عن حياة حزبية غنية بالأفكار والأدب والشعر والقانون والأبحاث الجديدة لمعالجة أزمات المجتمع، لم نعد نقرأ عن نشاطات حزبية متخصّصة، مركزية ومناطقية، تخفف عن المواطن أزماته، لم نعد نقرأ مشاريع جامعة عابرة للمناطق والمذاهب في سبيل تعزيز حال المواطن والوطن… .

فشل الأحزاب بشكلها الوطني العام لم يمنع من تحوّلها، أو البعض منها، إلى ميليشيات محلّية مأجورة، تعمل كفرق حرس خاصة بزعماء المناطق والطوائف، تستنفر بمواجهة جمهورها أوّلاً منعاً للتفلت، ومعاقبة أي شخص تخوّله نفسه وأفكاره أن يعارض، وفعلياً هي تحوّلت إلى زمر تحمي الفساد وأهله.

 

في المحصلة، فإنّ الحياة السياسية قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها، وتراجع الخطاب السياسي من البرامج الكبرى، التي تتعدّى أحياناً الحدود اللّبنانية، إلى زواريب محلية ضيّقة، وتحوّلت كوادر الأحزاب إلى مجموعة من العصبويين يعتريهم النزق ويتخذون من المذاهب والمناطق دروعاً تختبئ خلفها مافيات سقفها سياسي طائفي وواقعها تنظيم النهب والفساد.

من هنا، وطالما أنّ القاعدة الذهبية تقول “لا فراغ في الطبيعة” فإن غياب الأحزاب وتجويف المجتمع، وبدعم خارجي واضح، قد دفع لولادة ديناميات أخرى أكثر واقعية،  عُرفت بجمعيات المجتمع المدني أو الجمعيات الأهلية.

يُقدّر عدد الجمعيات الأهلية في لبنان بنحو 10 آلاف جمعية، وللمفارقة أن نحو 2% منها تمتلك صفة المنفعة العامة التي يمنحها إياها مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناءً على طلب تُقدّمه الجمعية لدى وزارة الشؤون الاجتماعية. هذه الصفة تجعل من هذه الجمعيات أكثر “فاعلية” و”تأثيراً”. ورغم أن هذه الجمعيات تتوزّع كحصص بين الطوائف والأحزاب في لبنان، لكن بعضها شكلت بديلاً فعلياً عن الأحزاب التقليدية.

بغض النظر عن كل المقولات المتعلقة بالجمعيات ودورها، وهي بالمناسبة صحيحة إلى حدٍّ بعيد، من قبيل اختزالها للقضايا وتشتتيتها وتفريع المشاريع وحاجات المجتمع، وكلّ ما يقال عن دورها الخبيث في تحوير الأهداف التنموية الحقيقية وزعزعة القضايا الوطنية الكبرى، وهي تعمل فقط على تلبية رغبات الممولين المشبوهة، والتهمة الكبرى كونها هي من ضمن ماكينة الحروب الناعمة التي تُشن على مجتمعات دول العالم الثالث، خاصةً نحن في منطقة على تماس مع دولة الاحتلال في فلسطين.

انطلاقاً من دقة ما يقال وصحته، يبقى السؤال الأساسي كيف عملت الأحزاب “الوطنية” والقومية واليسارية وغيرها لمواجهة هذه “الهجمة”. لماذا السباب اليوم على مجموعات عملت في أطر جديدة ولا نسأل عن كيفية إعادة الحياة الحزبية للانتعاش ومن كان المسؤول عن كل هذا القحط؟ كيف طوّرت الأحزاب التقليدية كوادرها وعملها حتى تجلس في صفوف الناعقين من خطر الـNGOS؟.

الجمعيات الأهلية، بغض النظر عن الواقع الحالي، إنّها أحزاب مستقبلية بشكل جديد، ولكن تبقى الحاجة للأحزاب التقليدية الشاملة، التي تنطلق من الشأن الوطني العام إلى قضايا متفرعة.

وحتى يتحقق ذلك، للأسف سنرى مزيداً من طرد الأحزاب وكوادرها من الحياة العامة، وستكون مجموعات الـ NGOS هي الفاعلة، علّها تهتز ضمائر ونخوة الكوادر الحزبية للعمل الجدّي… وللحديث صلة.

عامر ملاعب

عامر ملاعب

كاتب وصحافي لبناني، يحمل شهادة الدبلوم في التاريخ من الجامعة اللبنانية، عمل في صحيفتي الأخبار والحياة. أعد وقدم برامج في قناة الثبات الفضائية، وإذاعة صوت الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى