اقتصاد

حكم المصرف يدوم ويتمدد…

في بلد آيل للسقوط الخطوات الناقصة والمغامرات غير المحسوبة كثيرة. وكل توقع غير ذلك مخالف للمنطق.  كاد أن يكون قرار مجلس شورى الدولة المفاجئ بإلزام المصارف “وقف تسديد بدل الحسابات بالليرة وفق سعر 3900 للحساب المفتوح بالدولار، وتسديدها بالعملة الأجنبية”، البشرى التي ينتظرها اللبنانيون، الذين خسروا مدخراتهم واضطروا إلى بيع دولاراتهم للمصارف بسعر ثلث سعر السوق الموازية لصرف الدولار.

لكن القرار كاد يقود إلى انفجار الشارع تماماً كما فعل رسم الـ6 دولارات على خدمة الواتساب، وأطلقت شرارة انتفاضة قلبت الأحوال في لبنان رأسًا على عقب. فبعد أن اكتفى مصرف لبنان بتعليق العمل بالتعميم المتعلق بالسحب على أساس 3900 ل.ل للدولار، وترك جزئية تسديد الودائع بالدولار بسبب فقدان العملة الصعبة من المصارف، ما يعني عمليًا العودة إلى سعر صرف 1500 ل.ل. امتلأت الشوارع اللبنانية بالمواطنين الذين اصطفوا أمام آلات السحب النقدي لسحب ما تيسّر قبل أن يدخل قرار مصرف لبنان قيد التنفيذ. وأُضيف مشهد طوابير الذل المالي إلى طوابير الوقود.

احتواءً لتداعيات قرار حاكم المصرف المركزي، عُلم أن رئاسة الجمهورية أجرت اتصالات رفيعة المستوى أفضت الى حل موضوع الإجراءات القضائية وستتم العودة بعد اجتماعات رفيعة المستوى ستعقد صباحاً الى التعميم السابق لمصرف لبنان بسحب الاموال على سعر 3900 ليرة.

وفي محتوى الاتصالات التي أجرتها رئاسة الجمهورية مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تمّ الاتفاق على عدم تجميد العمل بالتعميم رقم 151 القاضي بتسديد المصارف ودائع الدولار على سعر صرف 3900 ليرة، لما للقرار من تبعات خطيرة على الوضع الاقتصادي والشعبي وحتى الأمني والتحركات التي شهدتها المناطق ليلاً كانت كافية لإطلاق الإنذار إلى الجميع.

وبحسب مصادر القصر الرئاسي سيقوم سلامة بإبلاغ المصارف اليوم بعدم تجميد القرار، والاستمرار في التسديد على سعر الـ 3900. وسيتم التواصل مع مجلس الشورى لتعديل قراره، وهذا ما تتوقف مصادر قانونية على خطورته.

ما حصل ليل الأربعاء، أثبت بما لا يقبل الشك أن لبنان بما فيه من ناس وقضاء وأمن وسياسة مرهون لصالح سلطة المصرف المركزي. وكان سلامة أبلغ المصارف تجميد العمل بالقرار 151 استناداً إلى تبلّغه اليوم قرار مجلس شورى الدولة وقف تنفيذ التعميم. وكانت التسريبات بدأت نهاراً بأن رد المركزي على قرار مجلس الشورى سيكون العودة إلى سعر الصرف الرسمي يعني قضم 90% من قيمة الودائع.

قرار مصرف لبنان القاضي بإلغاء التعميم رقم 151 يشير بشكل أساسي الى أن كل مودع سيحصل على دولاراته من المصارف على أساس سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة.

وبحسب الخبير الاقتصادي وليد بو سليمان المصارف ملزمة بتطبيق هذا التعميم كونه صادر عن مصرف لبنان، وما حصل يشير بشكل أساسي إلى أن المودعين خسروا قيمة كبيرة جداً من إيداعاتهم مقارنة مع سعر الدولار في السوق الموازية. وقال بو سليمان إن المصارف تدعي أنه ليس لديها دولارات، وما يحكي عن بدء المصارف لرد لأموال المودعين اعتباراً من آخر حزيران الجاري، سيكون من خلال الاحتياطي الالزامي، مبدياً تخوفه من أن تشهد مسألة تسليم الايداعات استنسابية كبيرة، بمعنى أن يقوم المصرف بتسليم مودع دون آخر وذلك من دون رقابة.

لكن بعد أقل من ثلاث ساعات على قراره، وجد مصرف لبنان أنه نظرًا لأهمية التعميم ١٥١ للاستقرار الاجتماعي ولتنشيط الحركة الاقتصادية في البلد على أنه سيتقدم بمراجعة لدى مجلس شورى الدولة لكي يعيد النظر بالقرار الذي اتخذه!.

وكان أصدر مجلس شورى الدولة القرار رقم 213/2021 الذي قضى بوقف تنفيذ التعميم الذي سمح بالتسديد بالليرة للحساب المصرفي المفتوح بالدولار الأميركي، “لعدم قانونيته”، وأصبحت المصارف بموجبه ملزمة بتسديد قيمة وديعة الدولار كاملة بالعملة الصعبة، وبالتالي، لا يمكن المصرف تسديد قيمة الوديعة على سعر 3900، فيما سعر السوق السوداء تخطى الـ 13000 ليرة.

برأي الخبراء فإنّ إرغام المودع بسحب وديعته بالليرة كانت عملية توزيع للخسائر بشكل غير عادل، بحيث قاربت خسارة المودع 70%، وهي نسبة الفارق بين دولار السوق السوداء ودولار المنصة 3900.

يُشار إلى أن هذه المراجعة كان قد تقدم بها المتخصص بالرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة اليها المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر وزميليه شربل شبير وجيسيكا القصيفي وكانت قد سجلت في قلم مجلس شورى الدولة تحت الرقم 24551/2021 طعنا بالتعميم الاساسي الصادر عن حاكم مصرف لبنان تحت :/13318/ وكل ما هو متصل به وهي ترمي الى وقف تنفيذهم وابطالهم.

الباحثة في القوانين المصرفية والمالية سابين الكيك اعتبرت أن “القرار الإعدادي الصادر عن مجلس شورى الدولة يجب أن يتبعه قرار نهائي في هذا الملف”, ولفتت إلى أنه “يجوز لمصرف لبنان أن يتقدم بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة إن كان يملك معطيات جديدة حول تحرير الودائع وإن لم تتضمن هذه المراجعة معطيات جديدة فمن حق المجلس أن يردها”.

وفق القانون، الوديعة تردّ كما هي، وإجراءات العودة إلى سعر الصرف السابق هو تثبيت لقضم حقوق الناس. وبحسب رئيس جمعية المودعين اللبنانيين حسن مغنية “إن كان نزول الناس إلى الشارع للمطالبة بالـ” 3900″ فهذه كارثة فمجلس شورى الدولة أخذ قرارًا جريئًا والمطلوب إنجاز مهمته وإتمامها وإلزام المصارف بتسليم الودائع بالدولار”. واعتبر أن إذا تمّت العودة لقرار الـ3900 فعلى مجلس شورى الدولة أن يقدم إستقالته فهو لم يستطع أن يلزم المصارف بقراره”. لافتاً إلى أن القرار وجب اقترانه بدفع المصارف دولارات المودعين بعملة الايداع أو تصفيتها بحال التخلف. ووجب تحميل المساهمين المسؤولية بأموالهم الخاصة.

تجميل إجراء الحاكم بأمر المال لا يزال قائماً على نية “الضمير الغائب” باعتبار أنه لا مفر من العودة إلى تطبيق التعميم 151 كونه “الأكثر واقعية” بحسب المصدر المصرفي، ولا يعدو إلّا “إستجابة لمتطلبات الناس وتسيير شؤونهم النقدية ضمن الإمكانات المتوافرة في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية، التي تضرب لبنان بغياب تنفيذ أي برنامج اقتصادي إصلاحي للنهوض بالبلاد”.

وفي هذا الإجراء ستُبقي المصارف على ارتكاباتها بحق الناس حجز الودائع وقضمها، لأن لا أحد على ما يبدو أقوى من قرارات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وبحسب النّائب السابق لحاكم ​مصرف لبنان​ مكرديج بلدقيان، أن “احتجاز الودائع من قبل المصارف، أو فرض “كابيتال​ كونترول” أو “هيركات” على هذه الودائع، أمر يتعارض بكل المعايير مع الدستور اللبناني ويستوجب المساءلة و​المحاسبة”​.

وبغياب من يجرؤ على وقف “المجازر” المالية فإن الساحة مفتوحة على مزيد من التأزم والقساوة والإجراءات العشوائية فيما المطلوب نصوص قانونية صادرة عن المجلس النيابي للمراقبة والمسائلة والمحاسبة بحق إدارة مصرف لبنان ولجم سلطة حاكم يبدو أنه أقوى من الجميع.

 

رانيا برو

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى