حقوق

العفو العام: هل الحلّ بقانون يُنفذ على مراحل؟

العفو العام هو العفو الذي تُصدره السلطة التشريعيّة لإزالة الصفة الجرميّة عن فعل هو في ذاته جريمة يعاقب عليها القانون بحسب (المادة 150) من قانون العقوبات اللبناني؛ فيصبح الفعل كأنه لم يُجرَّم أصلاً. وتبرّر العفو العام عادة ظروف اجتماعيّة أو سياسيّة عدة تحتّم إسدال الستار على بعض الجرائم، بغية حذفها من ذاكرة الناس واستئناف الحياة في مرحلة جديدة لا تعكّرها ذكريات تلك الظروف.

أمراض مستعصية

في لبنان هناك سجناء لا يزالون وراء القضبان بالرغم من انتهاء مدة محكوميتهم؛ إبقاؤهم مسجونين سببه عدم قدرتهم على دفع الغرامة المالية المتوجبة عليهم للحق العام. في السجن أيضاً محكومون يعانون من أمراض مستعصية، وهم أصبحوا بحاجة إلى رعاية طبية لا تتوفر في مراكز سجنهم. ومع ذلك فإنّهم متروكون لمصيرهم، ولا يلتفت أحد إلى ضرورة إخراجهم من السجن بقرار كي يُمضوا ما تبقى لهم من أيام بين ذويهم. مشكلة أخرى تُضاف إلى المشاكل الكثيرة التي يعاني منها السجناء في لبنان وهي مشكلة المطلوبين للعدالة، والذين يتجاوز عددهم ستين ألفاً. ثلثهم تقريباً مطلوب القبض عليهم بتهم جنحيّة صغيرة لا يتجاوز الحكم فيها مدة السنة. هؤلاء عرضة للملاحقة الدائمة، ويتمّ من وقت إلى آخر تنظيم حملات أمنيّة للقبض عليهم. القبض عليهم يمثل مشكلة بحد ذاتها في ظل غرق السجون بالمحكومين والموقوفين، وعدم قدرتها على استيعاب المزيد بشكل صحيّ وسليم.

أمام جملة المشاكل هذه، يجد المعنيّون أنّ الحل الأفضل يتمثل بإصدار قانون عفو عام تسقط بموجبه الأحكام والعقوبات عن بعض الجرائم. ما عدا تلك المحالة أمام المجلس العدلي أو المتعلّقة بالتعامل مع العدو الإسرائيلي أو الاتجار بالمخدرات او الجرائم الدولية.

انطلاقاً مما تقدّم يبقى السؤال أين أصبح مشروع قانون العفو العام الذي تمّت إحالته إلى مجلس النواب منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولا يزال موضع جدل بين القوى السياسيّة والتي تريد استغلاله لتسجيل مكاسب شعبية وانتخابية. فيما على الضفة الأخرى يقف المعنيون بهذا القانون ينتظرون صدوره بفارغ الصبر كي يرتاحوا من عذاباتهم، ويتسنى لهم فتح صفحة جديدة في سجل حياتهم.

تعطيل الإصدار

يوضح مصدر في وزارة العدل لـ “أحوال” بعض الجوانب التي رافقت مشروع القانون ويقول: “مع انتشار وباء كورونا في لبنان برز خوف جدّي من انتقال العدوى إلى السجون. الأمر الذي قد يسبّب كارثة صحيّة في ظل الاكتظاظ الهائل الذي تعاني السجون في لبنان. ويضيف المصدر قائلاً: “من هنا برزت فكرة إصدار عفو خاص يشمل المحكومين بجرائم جنحيّة صغيرة، والسجناء الذين انتهت مدة سجنهم ولا يزالون وراء القضبان بسبب عدم قدرتهم على دفع غرامة الحق العام. كما يشمل أيضاً السجناء المصابين بأمراض مستعصية، وأصبحوا بحاجة لرعاية طبية لا تتوفر في السجن. ويتابع المصدر: “تمّت دراسة 800 ملف ممن تنطبق عليهم شروط العفو الخاص، وأبدي الرأي القانوني فيها تمهيداً لإحالتها إلى رئيس الجمهورية للتوقيع عليها، ولكن الوضع تجمّد عند هذه النقطة، بحيث لم ينل أيّ من المحكومين الذين تنطبق عليهم الشروط عفواً خاصاً حتى اللحظة.

السياسة في التفاصيل

أما عن مشروع قانون العفو العام فيوضح المصدر لـ “أحوال”: إنّ مشروع القانون تمّت دراسته من قبل مستشارين قانونيين في مكتب وزير العدل، وذلك لتمكين الوزير من مناقشته في مجلس النواب، حيث تمّ استبعاد كل ما له علاقة بجرائم الإرهاب، والاعتداء على العسكريين، والتعامل مع العدو، والاتّجار بالمخدرات، والاغتصاب، ومحاولة الاغتصاب من مشروع القانون؛ ولكن مع وصوله إلى المجلس النيابي بدأت تطفو على السطح التجاذبات السياسيّة، بحيث تمّ دمج اقتراحات قوانين عدة في مشروع قانون واحد، ولكن ما تمّ دمجه لا علاقة له بما تمّت دراسته في وزارة العدل”.

من جهة أخرى، لا يؤيد المصدر فكرة إصدار قانون عفو شامل. وهو يقول لـ “أحوال”: “إنّ حل واقع السجون يكون بإلاسراع في بناء سجون نموذجيّة، والتي من مهامها إحداث تغيير إيجابي في سلوكيات من امتهنوا الإجرام، وتمّ الحكم عليهم نتيجة أفعالهم الجرمية. ويُبدي المصدر تخوّفاً من عودة الذين سيشملهم قانون العفو إلى ممارسة الإجرام مجدداً بعد خروجهم من السجن، مما يعني تحميل الدولة مسؤولية الفشل”.

العفو ليس حلاً

من جهته، يشير النائب السابق غسان مخيبر، والذي كان عضواً في لجنة الإدارة والعدل النيابية خلال ولايته النيابيّة إلى وجود أكثر من مشروع اقتراح تم تقديمه من هيئات في المجتمع المدني وكتل نيابية إلى المجلس النيابي لدراسته. مخيبر يقول أيضاً: “إن أيّ بحث في قانون العفو يجب أن يأخذ السياسة العقابيّة للدولة وينظر الى الواقع بكل جوانبه”. وهو يعزو التأخير في صدور القانون إلى الأوضاع الأمنيّة الهشّة التي يعيشها لبنان، والتي ستأتي في ظلها نتائج قانون العفو قليلة الفاعلية”. مخيبر يشدد في حديثه لـ”أحوال” على ضرورة عدم التهاون مع جرائم المخدرات وبقائها خارج قانون العفو، ويقول: “ولكن هذا يحتاج إلى تعديل قانون العقوبات المتعلّق بجرائم المخدرات، وذلك لجهة اعتبار المتعاطي مريضاً وليس مجرماً وتشديد العقوبة على المروّج”. مخيبر يدعو أيضاً إلى الفصل بين مشروع قانون العفو ومشكلة الاكتظاظ في السجون، والتي يكون حلها بالحدّ من التوقيفات الاحتياطيّة وليس العفو عن الأحكام النهائيّة.

حلّ على مراحل

أما الناشط في مجال حقوق الإنسان علي أمهز، فيدعو في حديثه لـ”أحوال”: “إلى ربط العفو عن جرائم القتل بإسقاط ذوي الضحية لحقوقهم الشخصية”. أمهز يدعو أيضاً القضاء إلى التوقف عن إصدار أحكام بالسجن المؤبد، والتي لم يعد يُعمل بها في كل دول العالم المتحضر، والاستعاضة عنها بأحكام يصل أقصاها إلى عشرين سنة سجناً. ويقول أيضاً: “أدعو الدولة اللبنانية إلى حل مشكلة قانون العفو على مراحل إذا كانت غير قادرة على مقاربتها دفعة واحدة؛ على أن تشمل المرحلة الأولى إعفاء السجناء الذين يعانون أوضاعاً صعبة من الغرامات المادية، والتي إن لم يتم تسديدها سيبقى هؤلاء وراء القضبان. ويوضح، “إنّ قمة المأساة هي أن ترى شخصاً قابعاً وراء القبضان بسبب عدم قدرته على دفع غرامة مادية زهيدة”.

نبيل المقدم

 

نبيل المقدم

كاتب وصحافي وباحث سياسي لبناني. صدر له العديد من المقالات والمؤلفات ابرزها "وجوه واسرار من الحرب اللبنانية".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى