منوعات

اليوم الوطني للمحميات.. إهمالٌ وفوضى وغيابٌ رسمي!

لم يأتِ إعلان “اليوم الوطني للمحميات” لمجرّد الإحتفال والذكرى، ولا البيئة “فولكلور سنوي” في محطات ومناسبات محلية أو عالمية؛ فعندما تتبنّى الدولة يومًا للمحميات، يعني ذلك أن ثمّة حاجة لفهم أعمق للنظم البيئية، وثمّة حاجة أكثر للإدارة السليمة للمحميات الموجودة، خصوصًا لجهة المواءمة بين الحماية والتنمية؛ فالمحميات ليست فضاء منفصلًا عن المجتمع المحلي، وإنّما تتكامل معه في دورة حياة تعيدنا إلى فهم فلسفة الإستدامة التي كرّسها الأجداد عبر مئات السنين، فلا تأثّرت بحرائق ولا بقطع جائر للشجر.

حتى الآن، لا نزال بعيدين عن اكتناه معنى الهدف الحقيقي للمحميات ودورها ونظمها وسبل إدارتها، فإعلان محمية بمرسوم يعني الخطوة الأولى على طريق الدراسة ووضع الخطط وفق رؤى سليمة وتوجهات واضحة، وهذا ما لم نشهده إلا في ما ندر. ومع انضمام ثلاث محميات جديدة (شاطئ العباسية، النميرية في النبطية وجبل حرمون في البقاع الغربي)، تبدو الحاجة ملحة لبلورة أفكار خلاقة تفضي إلى تكريس أهداف التنمية، بعيدًا من الفوضى والإرتجال.

صحيح أن ثمّة تجارب مضيئة في هذا المجال، إلا أنّها لا تزال دون المطلوب مع ارتفاع عدد المحميات إلى 18، فلكلّ محمية خصائص معينة، إذ تتطلّب إدارتها رؤى منسجمة مع هذه الخصائص، لكن ما نشهده من إهمال إداري وتنظيمي لا يمكن تبريره بشح الموارد والتعديات، فساعة يتم ربط المجتمع المحلي بفضاء محمية ما فيتحوّل المواطن حارسًا على لقمة عيشه، يحمي شجرة تطرح ثمارًا وأرضًا تعطي خيرات وأسواقًا لمنتجات محلية، لكن ثمّة أيضًا إهمالًا رسميًا للمحميات خصوصًا والبيئة بوجه عام، وعلى سبيل المثال، اقتصر “اليوم الوطني للمحميات” على استعادة شعار العام الماضي: “محميتي حياتي”!.

وزارة البيئة

من المفارقات “غير المفاجئة” ألا تكون وزارة البيئة “على الخط”، خصوصًا أنّه تعذّر التواصل مع الجهة المعنية بهذا اليوم الوطني، أقلّه لنقل تصورات وتوجهات الوزارة المعنية بالمحميات وسبل تطويرها وزيادة أعدادها، ولكن يبدو أن ثمة أمور روتينية ليست بجديدة على مستوى مؤسسات ومرافق الدولة؛ لا نتقصّد هنا الإساءة، فثمّة ظروف ضاغطة أحيانًا غير منفصلة عن شحّ الموارد وقلّة عدد الكادر التقني المسؤول، وإن كان ثمة ما لا يُبرر أحيانًا، خصوصًا ما هو متصل بكارثة التلوث النفطي الأخيرة مع شبه غياب لوزارة البيئة، ما يطرح إشكاليات كثيرة حيال دورها وموقعها.

متري: إهمال وتعديات

وفي هذا السياق، تواصل “أحوال” مع مدير برنامج الأراضي والموارد الطبيعية في معهد الدراسات البيئية في جامعة البلمند، د. جورج متري، الذي رأى أنه بالنسبة لمساحة لبنان والموارد الطبيعية التي يتميّز بها، فإن مساحة المحميات ليست قليلة للغاية فحسب، بل يطاولها إهمال وتعديات، لافتًا إلى أن المحميات تشكّل ما بين 2.5 و3 بالمئة من مساحة لبنان، ومن المفترض إنشاء محميات وصولًا إلى ما لا يقل عن 10 بالمئة لمناطق مملوكة من الدولة، “وهذا ممكن خصوصًا في ظل قانون شامل ومتكامل، ونقصد هنا “قانون المناطق المحمية” وهو الأحدث والصادر تحت الرقم 130 بتاريخ 30/4/2019″، بحسب قوله.
وأكد متري أن القانون شمل تحديثات ضرورية على قانون المناطق المحمية، من شأنها أن تنظم عملية حمايتها ويمهّد لإنشاء مناطق جديدة، سواء على أراض عامة أو في الممتلكات الخاصة، “وهي بالإجمال تتوزّع على خمس فئات رئيسية وهي: المحمية الطبيعية، المنتزه الطبيعي، الموقع أو المعلم الطبيعي، الحمى، فضلًا عن أي فئة أخرى يتقرّر استحداثها بمرسوم حكومي ينسجم مع المعاهدات الدولية، وبما يتناسب مع الخصوصية الطبيعية للبنان والحفاظ على موارده الطبيعية”.
وأشار متري لموقعنا إلى أن القانون جيد لكن العبرة في التنفيذ الذي تطاله إشكاليات عدّة، أبرزها الإرادة الشاملة وتطبيق القانون، فضلًا عن وجود المحفزات المالية والإدارية والسياسية والمجتمعية لتنفيذه، لافتًا في هذا الخصوص إلى أن المحميات القديمة أُنشئت وفق قوانين خاصة بها، ولا تخضع للقانون الجديد، “وهي قوانين مفصلة على قياس كل منها Customized”، بحسب تعبيره.

الإتفاقات الدولية

من هنا، شدد متري على أهمية القانون الجديد بالنسبة للمحميات والغابات، في ظل الأزمة الإقتصادية التي تستنزف الموارد الطبيعية، مثل الحطب والنباتات والحيوانات، وتدفعها إلى الإنقراض، إلى جانب أهميتها بالنسبة للإتفاقات الدولية التي التزم لبنان بتطبيقها وتنفيذها لحماية التنوع البيولوجي، مثل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التنوع البيولوجي 1992، اتفاقية الأونيسكو لحماية الإرث العالمي الثقافي الطبيعي 1990، اتفاقية رامسار للأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية، واتفاقية الطيور المائية المهاجرة الأوروآسيوية-الأفريقية وغيرها، مشيرًا إلى أن “كل محمية من هذه المحميات لها خصائص متميزة لجهة الموقع والتنوع البيولوجي، لكنها تعاني من الإهمال نتيجة ضعف الموارد وعدم وجود لجان لإدارتها بصورة مستدامة، كما وأن معظم هذه المحميات مساحتها صغيرة ومن الممكن توسيعها من أراضٍ حولها، وكذلك العمل على تطوير القوانين بهدف التدخل إيجابيًا بأعمال منظمة من التقليم والرعي والتحطيب والتفحيم لاستثمارها بما يوفر دخلًا ليس على المجتمعات المحلية فحسب، بل على الوزارات لتقوم بتمويل الخطوات المطلوبة للحماية من الأخطار التي تتهددها، لجهة التغير المناخي والحرائق والأمراض”.

إسطفان: لإعادة النظر بقانون البيئة

بدوره، رأى الأستاذ المساعد في الجامعة اللبنانية – كلية العلوم، قسم الحياة والأرض، جان اسطفان، في حديث لـ”أحوال” أنه يتوجب إعادة النظر بقانون حماية البيئة 444 الخاص بالمحميات، لجهة ترك المحميات كما هي وعدم التدخل بها، “لأن تركها قد يضرّ الموائل الطبيعية والتنوع البيولوجي أكثر مما يفيده”، لافتًا إلى أن الأمر الوحيد المسموح حاليًا في المحميات، هو إنشاء الدروب لتفعيل السياحة البيئية، “وهذا الأمر اصطدم مع واقع المحميات والمنحى الإجتماعي، إذ لا يشجّع المجتمع المحلي على تقبل المحميات، فلا فائدة ترتجى لديه من هذا الأمر، ولكن إن تم التعامل مع المحميات بصورة مستدامة، بحيث تشكل دخلًا للمجتمعات المحلية من حطب ورعي وجمع نباتات وخلافه وبصورة منظمة وبإدارة مستمرة وشاملة، يمكن في هذه الحالة المحافظة عليها، فضلًا عن تطور النظم البيولوجية والتنوّع من نباتات وحيوانات، والحفاظ على مصادر المياه وموارد الناس”، وفقًا لـ”اسطفان”.

الصورة للناشط “وليد سيف الدين” من اللقاء البيئي في قضاء راشيا

محميات… غير طبيعية!

وفي سياق متصل، لحظ اسطفان أن عددًا لا يُستهان به من هذه المحميات “غير طبيعي”، وأعطى مثلين أحدهما “محمية بنتاعل” لافتًا إلى أنها محمية لا تتجاوز مساحتها كيلومترًا مربعًا، زُرع فيها عدد من أشجار الصنوبر المثمر في أربعينيات القرن الماضي بهدف استثماره، وحاليا ممنوع تفريدها أو تشحيلها أو قطف الثمار منها، “وهذا الأمر يتعارض مع المنطق الشامل للتعامل مع الطبيعة وتطور النظم فيها، والتي تفي بحاجة الناس والكائنات الحية الأخرى، لأن الإنسان تدخل وزرع هذه الأشجار منذ البداية، وإن لم نقم بصيانة هذه الأشجار فمصيرها أن تتعرّض لليباس في نهاية المطاف”.

وأورد اسطفان مثالًا آخر، وهو “محمية أرز الشوف”، فقال: “معظم الغابات الطبيعية في الشوف هي عبارة عن أشجار، مثل شجر الأرز وشجر اللك Quercus look Kotschy، وهو نوع نادر من السنديان غير موجود إلّا في مناطق قليلة في لبنان، بينما هناك نسبة كبيرة من الغابات غير طبيعية وأكثرها في الباروك وقسم من غابة عين زحلتا ومعاصر الشوف، حيث تم غرسها ضمن “المشروع الأخضر” في ستينيات القرن الماضي، “وهي أشجار دخيلة مثل شربين أريزونا والصنوبر الأسود أو النمساوي، وكان الهدف من زراعتها إنتاج الخشب بهدف الإستثمار في صناعة الأخشاب، فلم تكن حينذاك الأهداف بيئية بل اقتصادية وجمالية بشكل عام”، مضيفًا: “بالمقابل، يمكن إدارة هذه الغابات لتتحوّل إلى طبيعية، عبر قطع بعض الأشجار للسماح للبعض الآخر بالإستمرار، وتسرّب الضوء نحو الأرض بما يسمح بإنبات أنواع أخرى من النباتات النادرة التي لا تقل أهمية عن أشجار الأرز مثلًا”.

الإستدامة

في المقابل، تساءل اسطفان: “لماذا يُسمح بحملات التحريج ولا يُسمح بقطع بعض الأشجار؟”، معتبرًا في حديثه لوقعنا أن هذه الحماية الراديكالية للأشجار لا تُعطي حماية مستمرّة للنظم الإيكولوجية، فالغابات إن اكتظّت تشكّل ضررًا أكثر من فائدة على المدى البعيد، “فنحن لا نتعامل مع المحميات بصورة علمية، بل قد تتأثّر الطبيعة بصورة سلبية، فغاباتنا من الأقدم في العالم وتم استثمارها منذ عصر “الهولوسين” قبل 10 آلاف عام وحتى الآن، وبالتحديد بالرعي والسكن في العصر النيوليتي، فالراعي ضروري للغابة الطبيعية، مثله مثل الإدارة الأخرى لموارد الغابات من قبل المجتمعات المحلية”.

وأكد اسطفان أن المحميات الموجودة لا تعتمد بمعظمها على الأسس العلمية، مثل IUCN Conservation Categories، والتي تشمل شروط الإستثمار الزراعي وغيره، واستخدام الأراضي ضمن نطاقها، ليس بوضع قوانين فحسب، بل بالمتابعة والمراقبة ووضع منظور الإستدامة وإيجاد بديل للأهالي، “فعلى سبيل المثال، تتشابه بعض المحميات لجهة ظروف إنشائها الخاضعة لمزاج المتنفذين، وعلى ارتفاعات متماثلة مثل التي تحتوي على أشجار الأرز كمحمية الشوف وتنورين وإهدن وجاج، بينما ثمّة حاجة لمحميات في مناطق ذات أولوية قصوى وذات تنوع بيولوجي فريد ولا يحتوي على أشجار كالأرز وغيره، مثل النظم البيئية الموجودة على الشواطئ والمهدّدة بالمد العمراني وغيره، كصخرة الروشة، أنفة، الجية والرملة البيضاء، يتبعها في الأهمية قمم الجبال، مثل القرنة السوداء وصنين”.

دراسة علمية

من جهة أخرى، نوّه اسطفان بإنشاء “محميّة جبل حرمون” مؤخرًا، باعتبار أنها خطوة هامة، ونوع جديد من المحميات لجهة التنوع البيولوجي الفريد من نوعه، لافتًا إلى أن هناك مناطق مثل “شير قنوبين” يجب حمايتها، فضلًا عن الأراضي الرملية الرطبة مثل كفرسلوان وميروبا وترشيش وفالوغا، ومصبات الأنهر كنهر الأسطوان ونهر إبراهيم، والمستنقعات مثل كفرزبد وعنجر في البقاع والشيخ زينيت في عكار، وهي مناطق ذات تنوع بيولوجي متميز بحاجة لحمايته والمحافظة عليه أكثر من شجرة الأرز مثلًا، “والتي تُعتبر بالنسبة لنا موضوعًا وطنيًا ومصدر فخر، أكثر من كونها موضوعًا بيئيًا وعلميًا، أو تساهم بالتنمية المحلية”، بحسب قوله.

وفي الختام، أشار اسطفان لـ”أحوال” إلى دراسة علمية تُجرى منذ سنتين، ومن المتوقع صدور نتائجها خلال الفترة المقبلة بالتعاون بين المؤسسات الأكاديمية والوزارات، المتمثلة بالجامعة اللبنانية والجامعة اليسوعية والجامعة الأميركية ومجلس الأبحاث العلمية CNRS، ووزارتي الزراعة والبيئة، وذلك لإنشاء خارطة توضع عليها الموائل الطبيعية التي تحتوي على تنوّع بيولوجي فريد، ضمن المحميات وخارجها، بهدف حمايتها والحفاظ عليها وتحديث القوانين بما يتلاءم مع الأهداف المنشودة.

سوزان أبوسعيد ضو

سوزان أبو سعيد ضو

ناشطة وصحافية لبنانية. مجازة في التحاليل البيولوجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى