منوعات

المطران عودة وبكركي تناغم بديهي أبعد من تنسيق

“برحيله يفقد لبنان راعياً صالحاً وقائداً حكيماً وشخصية تاريخية تركت أثرها العميق في تاريخ لبنان المعاصر. كان لبنانيا ًصلباً في وطنيّته، كبيراً في مواقفه وحازماً في هدوئه (…) كان بطريركاً فريداً من نوعه. لم يكن يخصّ الموارنة وحدهم بل كان يخصّ المسيح أولاً ثم لبنان. تمسّك بمبادئه في أصعب الأوقات وأحلك الظروف، ودافع عن لبنان وحريّته ووحدته وإستقلاله رغم كل المخاطر…”، رثاء متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس المطران الياس عودة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في 12 ايار 2019 غداة وفاته يجسّد بمضمونه طبيعة العلاقة بين عودة وبكركي.

فالمتروبوليت عودة الذي يترأس الكنيسة الارثوذكسية في قلب لبنان بيروت حيث لأبرشيته حضور فاعل في النسيج المجتمعي، عاصر منذ تولّيه أبرشيته عام 1980 ثلاثة بطاركة موارنة. 40 عاماً وخط بياني واضح جسّده بالمواقف التي يطلقها خلال عظاته في الأعياد والمناسبات والتي تحمل الى جانب الإرشاد الروحي بعداً وطنياً وإجتماعياً. من يراقب هذه المواقف يلاحظ وجود تناغم بديهي مع مواقف بكركي أبعد من تنسيق وإجتماعات وإلتقاط صور. فما يجمع هو هاجس إحترام كرامة الإنسان والحفاظ على لبنان النموذج مساحة للتعددية وحرية المعتقد، فلا يقتصر وجود المسيحيين فيه على الحضور الجسدي كباقي دول الجوار بل على الشراكة الوطنية الفاعلة.

تقليدياً، لطالما كان متروبوليت العاصمة بيروت يلعب دوراً مميزاً بين المطارنة الأرثوذكس في تظهير موقف الكنيسة الوطني. عيّنة من مواقفه منذ إنفجار 4 آب كافية لتظهر مدى تقاطعها مع مواقف رأس الكنيسة المارونية وخطبته التاريخية في 27 شباط واللاءات التي اطلقها. يعتبر أن “الدولة ينخرها الفساد والجشع للسلطة” وأن “سياسيي بلادنا أدمنوا فن الرقص على الجثث، لأنهم إعتادوا على رائحة الدماء التي لطخوا بها أيديهم. لا يأبهون إلا لجيوبهم وكراسيهم وحصص أحزابهم وتياراتهم”. وبلغ به حد إعتبار أن “نكبة بيروت الأولى التي تفوق نكبة الإنفجار هي إنعدام المسؤولية وغياب الأخلاق والضمير عند طبقة سياسية لا تتحمل المسؤولية ولا تعرف المحاسبة”.

وفيما كان البطريرك الراعي يبادر في الخريف الماضي على خط بعبدا – بيت الوسط سعياً لتذليل العقبات من أمام قطار تشكيل الحكومة، كان المتروبوليت عودة يتوجه في عظة الاحد 21/10/2020 إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالقول: “أنقذ ما تبقّى من عهدك وقُمْ بخطوة شجاعة يذكرها لك التاريخ”. كما يتوجه إلى الرئيس المُكلّف سعد الحريري، بالقول: “أَسرعْ في مهمّتك لأنّ البلد يتهاوى والمواطن لم يعد يحتمل والوقت يتلاشى والتاريخ يحاسب”.

إنتهى الأمر بالبطريرك الراعي بـ” الشك في نوايا المسؤولين اللبنانيين الوطنية”، معتبراً أنهم “يتنافسون على تعطيل الحلول الداخلية” و”عنادهم يشلّ الدولة”. كذلك، خلص المتروبوليت عودة في عظة الأحد الماضي الى أن المسؤولين “يعتمدون تدميراً ممنهجاً لمفهوم الدولة”. فقال لهم: “تتلهون منذ شهور بجدالاتكم العقيمة، ومطالبكم وشروطكم، والبلد ينهار. هل فقدتم إنسانيتكم؟ أليس في صدوركم قلوب تخفق وتتألم وتدمى؟ عودوا إلى ضمائركم إن كان هناك من ضمير”.

ثمة تطابق في المواقف بين الراعي وعودة من السلطة الحاكمة والسلاح المتفلت والفساد والواقع الإجتماعي وتركيز على ضرورة بناء دولة القانون التي تحترم حقوق مواطنيها وكرامتهم. من هنا تأييد مواقف الراعي بديهي والأصح من التأييد هو الشراكة في المواقف بينهما بشكل عفوي لأن الهواجس واحدة والإهتمامات متطابقة.

مصدر متابع لمسيرة المتروبوليت يلفت عبر “أحوال” الى أن الواقع المأـساوي الذي وصل اليه لبنان دفع بالمطران عودة الى أن يزيد من وتيرة عظاته التي يتناول فيها الشؤون الاجتماعية والوطنية بحيث أصبحت اليوم شبه أسبوعية بعدما كانت تقتصر بشكل أساسي على عظة عيد الفصح وبعض الأعياد والمناسبات.

يضيف: “لطالما كان يرفع الصوت ويصوّب البوصلة نحو بناء دولة تحترم مواطنيها وحقوقهم. أما اليوم، فالحاجة ماسة لتسليط الضوء على الواقع الذي يعيشه المواطن اللبناني المتروك للمجهول من قبل المسؤولين عنه والمهدد بلقمة عيشه وطبابته وأمنه، لذا أصبحت العظات أسبوعية لأن سرعة الإنهيار كالبرق”.

المصدر المتابع يعتبر أن من يدعي أن رجال الدين يمتهنون السياسية وهذا ليس شأنهم يحرّف الحقائق، ويردف: “السياسة هي من دخل على الدين وليس العكس. عندما تخلّت الدولة عن القيام بواجباتها كاملة على صعيد الحماية الإجتماعية، عندما خلخل رجالات السياسة بممارساتهم وصراعاتهم المجتمع على الصعيد الإنساني والصحي والمعيشي سارعت الكنيسة الى ملء التقصير الذي قامت به الدولة تجاه مواطنيها وأصبح رجال الدين مرغمين على التطرق للسياسة والبحث عن حلول للدولة المقصّرة أو المتهالكة. فكيف لنا على سبيل المثال أن نرى بيروت مدمرة والبيوت والمؤسسات متضرّرة والضحايا بالالاف بين قتيل وجريح، ونطلب من الكنيسة أن تبقى مكتوفة الأيدي وألا يطرح رجال الدين السؤال عالياً عن من تسبب بالزلزال الدموي الذي طاول أبناء رعاياهم وكنائسهم ومؤسساتها التربوية والصحية والاجتماعية؟ رجال الدين من الشعب ولا يمكن أن يفصلوا حالهم عن الشعب. حين يستخدم أهل السياسة الطوائف لتحقيق مكاسبهم الخاصة لا يمكن أن يبقى رجال الدين صامتين؟”.

في الجزء الثالث من سيرة البطريرك صفير تحت عنوان “السادس والسبعون” ينقل الكاتب أنطوان سعد أن وفداً نيابياً زار بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الراحل أغناطيوس الرابع هزيم في العام 2000 شاكياً من تدخل البطريرك صفير في السياسة ومن المواقف التي كان يطلقها، فكان رده “ربما يتكلم لأنكم تصمتون”. فهل من يعتبر؟!

جورج العاقوري

صحافي ومعّد برامج سياسية ونشرات اخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى