منوعات
أخر الأخبار

حشود عالمية في لبنان.. والمصير في المجهول

منذ نشأة لبنان ككيان سياسي عام ١٩٤٣، لم تتوقف أحداثه وتطوراته، بما لم تشهده ساحة على مستوى العالم. وتحلّ الأزمة المتواصلة، والمتفاقمة، لتصل بتطوراته نحو ذروة، لا يُعرف إن كانت ستكون نهاية مأساته المحلية، أم نكبته الوجودية.

امتاز العالم ٢٠٢٠ بميزة تحوّل كبيرة تمثلت بظهور “كورونا”، وقيل فيها إنّها بديل للحرب العالمية الثالثة. سعة انتشارها ومفاعيلها لا تقلّ عن مفاعيل حرب على مستوى عالمي. تغيرت الحياة، ويتواصل التغيير فيها، حتى بات يقال إنّ العالم قبل كورونا شيء، وبعده شيء آخر.

ولو استرجعنا بعضاً من ذاكرتنا الطازجة، للأمس غير البعيد، لاستشعرنا عالماً غير عالم اليوم، ولشعرنا أنّ نمطاً حياتياً، على مختلف المستويات، قد ولّى، وليس ما يؤكد أنّه سيعود كما كان.

لبنان في هذه المعمعة، امتاز عن سواه من بلدان العالم كافة، كعادته. ففي الوقت الذي جابه العالم مرض “كورونا” مساراً لمتغيّرات دراماتيكية مرتقبة، تضافرت على لبنان ظاهرتان بهدف تغييره في وجهة مجهولة، هما: كورونا وحركة ١٧ تشرين الأول، وما بعدهما من تحركات ميدانية. ولمن يريد أن يعرف مدى التغيير الذي ضرب لبنان، يمكنه أن يعود لذاكرته الطازجة، لأقلّ من سنة خلت، ليعرف حجم التغيير الذي دخله البلد. أين كنّا وأين صرنا!!

التغيير الذي كان مطلوباً للبنان، سبقت إرهاصاته أزمة كورونا. ١٧ تشرين الأول كان تعبيراً عن بداية تحوّلات بدأت تتفاقم على المستوى العالمي؛ لكن مسرحها، كما في الكثير من الحقب التاريخية، كان الشرق الأوسط، وقلبه النابض تاريخياً، لبنان؛ وسبقت كورونا حركة الاحتجاجات بأكثر من خمسة أشهر، وكانت قد أدّت الكثير من دورها في إنهاك السلطة، والدولة، والكيان ككل.

بدا لبنان متحسّساً لتحوّلات العالم والمنطقة، نظراً لحساسية تركيبته، ولضعف مناعته. فهو يمرّ منذ نشأته بمراحل عديدة من المعوقات البنيوية، والسياسية، والديمغرافية، ناهيك عن انخراطه في الحروب والأحداث والتطورات التي لم تتوقف. بدا الدور الغربي في الشرق بالتراجع، وأصيبت مخططاته بهزائم متعددة، تمتد بين حربي العراق، مروراً بحرب ٢٠٠٦، وصولاً لحروب الربيع العربي الفاشلة، وذروتها الحرب في سوريا، وخروج الغرب منها خالي الوفاض.

بالمقابل، وعبر هذا المسار الطويل في عقدين من الزمن تقريباً، تنامت قوى عالمية من الشرق، بدأت تتوافد إلى ساحاته ومسارحه، طليعتها إيران الصاعدة_رغم الحروب التي زجّت بها رغماً عن إرادتها. ودخل الروس المنطقة بصورة مباشرة عبر الحرب السورية، وطرحت الصين رغبتها بالتقدم نحو المنطقة عبر خط الحرير.

حركة متغيرات لافتة لم يستسلم الغرب لها، لكنّه لم يظهر اهتماماً بأهميتها إلاّ عندما بدأ الصراع يتفاقم، وشدّ الحبال يبلغ ذروته. فكاد الأميركي يُطرد من الشرق، وكادت سوريا وحلفها تعيد تحرير أراضيها كافة، ولم يعد التحالف الدولي في حرب اليمن قادراً على التقدم، بل لحقت به خسائر كبيرة. بدأ الشرق الأوسط يفلت من يد الغرب الذي قسّمه، ورسم خرائطه منذ وفوده إليه منذ أكثر من قرن في حملاته الاستعمارية.

وفي لبنان، فاقمت حركة ١٧ تشرين الأوضاع تأزماً، ولم يعد بالمقدور التقدم بأي حلّ لقضايا البلد، فطُرحت مسألة تغيير الوجهة من الغرب، الذي راح يضع الشروط التعجيزية لمساعدته، نحو الشرق البعيد، الطامح لساحات الشرق الأدنى، حيث المياه الدافئة، وسهولة الحياة على صعدها المختلفة.

في لحظة طرح التفلّت من الغرب والتوجه شرقاً، بلغ التأزّم ذروته، فوقع انفجار المرفأ. ولم يحتمل الغرب خسارة مواقعه التاريخية التي أرساها عبر قرن من الزمن، والتي ما فتئت تشكّل له مجالاً حيوياً في حركته الاستراتيجية، خصوصا وأنّ الشرق المنافس لم يعد واقفاً على الأبواب فحسب، بل بدأ دخول المسرح بقوة، ولم يعد بالمستطاع اقتلاعه، لا بل بات المطلوب السماح لمن يرغب بالمزيد من التوغّل في أرجائه السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، وسواها.

لحظة انفجار المرفأ، كانت لحظة التعبير عن معادلة “نكون أو لا نكون”، بالنسبة للغرب. هل يبقى الغرب في الشرق عبر البوابة اللبنانية، أم يترك لمن شاء الوفود من البوابة الشرقية، ليحل محلّه؟ سؤال جوابه بديهي: لن يترك الغرب ما صنعت أياديه ليحل مكانه عالم آخر يهدده وجودياً. إمّا الغرب بغطرسته التاريخية، أو الشرق الذي بات حاضراً وموجوداً مع روسيا وإيران، وحليفتهما الصين الأقوى اقتصاديا وتكنولوجيا..

لحظات قليلة أكملت تغيير المشهد بين ماضٍ قريب، وحاضر متسارع. إنّه انفجار المرفأ الذي وجه ضربة لبيروت، ورسالة تهديد لمن يعرف بالاستشعار، فإذ بالبوارج الغربية تعود إلى المرفأ بكثافة، وإذ بطلائع القوى الغربية تدخل المرفأ بحجة البحث عن أسباب الانفجار، لتعيد التذكير بوجودها التاريخي في المنطقة، وتكريس ذلك الوجود بالحضور الوقح، الصارخ، واللامتردد الذي اعتادته البشرية في نزعة الروح السياسة الغربية الاستعمارية.

من هنا، تقف المنطقة على فوهة بركان انطلاقاً من خاصرته الرخوة تاريخياً. حالياً يكرّر لبنان_الذي تركه الغرب بتركيبته وببنيته السياسية والديمغرافية، خاصرة رخوة للدخول عبره إلى الشرق ساعة يشاء، أحداث ١٩٥٨ (الأسطول السادس الأميركي)، و١٩٨٢ (القوات المتعددة الجنسيات.)

المواجهة العالمية بين شرق صاعد وغرب مأزوم، تبلغ ذروتها انطلاقاً من لبنان، حيث تأهّلت الساحة لهذا الدورعبر ثلاثة عناصر: تحركات ١٧ تشرين الأول، كورونا لبنان، وانفجار المرفأ.

الأيام حبلى بتطورات دراماتيكية لا أحد يعرف أين تصل حتى من قبل كبار لاعبيها، وأسابيع، وربما أيام قليلة، تفصلنا عن مصير بلوغ التوتر ذروته العالمية.

سمير الحسن

سمير الحسن

كاتب وباحث عسكري لبناني متخصص في قضايا الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى