حقوق

الدولة اللّبنانية: بين الطائف و”حقوق الطوائف”

يتأرجح النظام القضائي في لبنان بين معيارين للمواطنة، أولهما ينبع من اتفاقية موقّعة بين زعماء الطوائف أكّدوا فيها على النيّة الجامعة لأداء دورهم بما يكفل العبور نحو دولة مدنية بكل مكوّناتها، حسب الأصول المذكورة في دستورالطائف. والثاني يتغذى من الولاء للطائفة الضيّقة على حساب الشعور بالانتماء إلى مفهوم أوسع وأعلى مثل المواطنة.

يتضمن ميثاق العيش المشترك الذي ولد معه الدستور الأوّل للبلاد، توزيع الحقوق ومراكز السلطة بين الطوائف الأكبر ثم الأصغر، وهكذا حافظ لبنان على وجوده مائة عام، ولم يتخلَّ حتّى الآن عن الصبغة الأولى التي ولد معها استقلاله.

وتحوّل مفهوم الشراكة الوطنية إلى الشركة الوطنية بحيث يطبّق بشكل حصري مبدأ المحاصصة في الحكم، بينما كان القصد وراء ميثاق العيش المشترك ضمان حقوق جميع الطوائف بشكل متساوٍ وذلك لمحو هاجس الحرب الأهلية من ذهنية الشعب اللّبناني.

القصد الذي كان حماية حقوق الطوائف جميعها، انقلب إلى نيّة مسبقة في كلّ من يتبوّأ مركز سلطة عامة، لتقاسم الأرباح في “الشركة اللّبنانية” التي تحتلّ المركز الأعلى” للدولة العميقة” في لبنان.

فهل يعتبر لبنان دولة مدنية فعلًا وما هي آلية العبور للدولة المدنية وفقًا لما نصّ عليه اتفاق الطائف؟

ينص الدستور اللّبناني في المادة 95 على ضرورة ” اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، بدايتها إلغاء الطائفية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكريّة واجتماعية”.

 

تعريف الدولة المدنية

ترتبط المدنية بظهور الديمقراطية واعتمادها طريقة للحكم، ولا تعتبر المدنية وجود الدين مشكلة بل ترعاه وتكفل حرية المعتقد(الدين) وهو ما نصّ عليه الدستور اللّبناني حين كفل حرية التعبير والمعتقد لجميع المواطنين.

تفصل المدنيّة بين الدين والدولة، بحيث يطبق قانون مدني موحد(غير مسلم أو مسيحي أو..) على جميع المواطنين بشكل عادل في شتّى الأمور القانونية وجوانب العلاقات الاجتماعية جميعها، وتكفل المدنية الانتقال المدني والسلمي للسلطة عبر الديمقراطية وذلك بشكل دوري، بحيث لا تحتكر فئة أو حزب أو طائفة أو مجموعة الحكم. كما أنّها تدعو للعدل بين أطياف الشعب كلّ بحسب وضعه، عكس العلمانية التي تطبّق المساواة، أي أنّ الجميع سواسية دونما أي اعتبار لأقلية أو أكثرية.

ويأتي النموذج اللّبناني “الهجين” بتركيبته بحيث يجمع بين القانون المدني وشريعة الدين في تنظيم علاقات وشؤون المواطنين.

وبذلك تحتفظ كلّ طائفة بنظامها القانوني فيما يخص الأحوال الشخصية “لرعاياها”، من قضايا إرث أو زواج، طلاق حضانة أو وصية…

 

 ميثاق التراضي بين المحاكم الشرعية والروحية والدولة المدنية في لبنان

تتعزّز الانقسامات الاجتماعية التي تتكتّل فيها الطوائف  بوجود المحاكم المنفصلة عن النظام المؤسساتي المدني للقضاء، حيث تصبح الطائفة صاحبة سلطة في تنظيم حياة المواطن، ومرجعية يعود المواطن إليها.  في دولة ينصّ الدستور فيها على” مدنية الدولة”، تتوزّع محاكم الأحوال الشخصية على 15 طائفة، تحتفظ كلّ طائفة ومحكمتها بنظامها التشريعي الخاص من حيث الدعاوى الناشئة عن الزواج والطلاق والإرث والوصية.

تعتبر المحاكم الشرعية بحسب الهيكلية القضائية هيئات خاصة لها مرجعيّتها المستقلّة من حيث التشريع، وتكون المحاكم الشرعية (السنيّة والشيعيّة) تابعة لملاك رئاسة مجلس الوزراء في حين تكون المحاكم الروحية للطوائف المسيحية تابعة للكنائس الخارجية الصالحة مثل الفاتيكان أمّا المحاكم العدلية التي تكتفي بالقانون الوضعي للبلاد وتكون تابعة لوزارة العدل وهو الوضع الطبيعي في دولة القانون الموحد الذي ينظّم شتّى المجالات للمجتمع والفرد. مع الإشارة إلى أنّ الخلفية الطائفية هي الدافع الأساس والوحيد وراء فصل محاكم الأحوال الشخصية عن وزارة العدل، وذلك كون رئيس مجلس الوزراء مسلم بينما وزير العدل يمكن أن يكون مسيحيًا.

وتكون الضابطة العدلية (القوى الأمنية) موكلة مهمة تنفيذ بعض القرارات الشرعية مثل تنفيذ قرار معجّل بحرمان أمّ من مولودها وتسليمه قسرًا إلى الأب، أو سجن الأم في حال عدم الامتثال لقرار تسليم الابن/الابنة.

وبما أنّ القانون لم ينصّ على حق المحاكم الشرعية بإصدار قرارات التوقيف (السجن)، إلّا أنّ ميثاق التراضي بين القضاء العدلي والمحاكم الشرعية جعل من الضابطة العدلية أداة تنفّذ القرارات الشرعية، والتي في معظم الأحيان تكون مخالفة للدستور والقوانين المدنية، كما في حالة دعاوى الحضانة لدى المحاكم الجعفرية، والتي تستند لأحكام الحوزة في العراق(النجف) ومؤخرًا قم(إيران) باعتبارهما المرجعية الدينية للطائفة الشيعية في لبنان.

إذن، حماية التعدّدية في لبنان دفع السلطة السياسية للحفاظ على وجود المحاكم الروحية للطوائف، متناسين أنّ دستور الطائف نصّ على وجوب تشكيل هيئة وطنية تختص بدراسة المرحلة الانتقالية وكيفية الانتقال من دولة الطوائف إلى دولة مدنية.

 

 تحقيق المساواة وتطبيق الرقابة القضائية على المحاكم الشرعية

يتولّى مراقبة حسن سير القضاء الشرعي السنّي والجعفري والعلوي وأعمال القضاة وموظفي المحاكم الشرعية مفتش واحد غير متفرّغ من الدرجة الثامنة على الأقل لكلّ من المحاكم، ويتمّ انتدابه من القضاة العدليين من “مذهب المحكمة المختصّة” نفسها، وفي ذلك تعارض مع مبدأ الرقابة التي تتطلب أوّلَا حيادَا يفقد جدواه في هذه الحالة.ووفقًا لقانون المحاكم الشرعية، المادة 450 تحديدًا، يجب أن يكون المترشح لبنانيًا، وسنّه بين الخامسة والعشرين والثامنة والأربعين، متمتّعًا بحقوقه المدنية والسياسية، غير محكوم من مجلس تأديبي بما يخلّ بالشرف.

وبحيث تعترف الدولة باحترامها الأديان جميعها، حيث أن لبنان “بلد يحتوي مجموع أديان، والدولة لا تنتمي إلى أحدها ولكنّها لا دينية تحترم الجميع”. إنّ المادة 9 من الدستور وإن كانت تجيز تعدّد الأنظمة الطائفية، إلّا أنّها لا تجيز استئثار الطوائف بنطاق الأحوال الشخصية كما أنّها لا تجيز الفراغ في القانون المدني العام.

إنّ حياد الدولة  المفترض تجاه المواطنين غير قابل للتطبيق بوجود اختلاف نظرة الدولة للمواطن،  من “عدسة” الطائفة وليس الدولة.

وفي هذا الصدد حاول المشرع بعد تعديل بالمواد 488 – 489 -487 من قانون العقوبات فرض المساواة بين الرجل والمرأة فيما يتعلق بشروط تجريم فعل الزنا والعقوبة المفروضة، على الرجل كما على المرأة، بعد أن كانت المواد قبل تعديلها لا تساوي في العقوبة بين الرّجل والمرأة (الحبس من شهر إلى سنة بالنسبة للرجل ومن شهرين حتى ثلاث سنوات بالنسبة للمرأة).

لم يزل الاجماع حول إتّـفاق الطائف القائم  دليلًا على الإبقاء على التوليفة الطائفية التي تربط المجتمع اللّبناني بعضه ببعض، ومعنى ذلك المحافظة على الذريعة الأسهل، ألا وهي حماية حقوق الطوائف للإبقاء على المحاصصة القائمة، مع أنّ العقد الميثاقي بين السلطة والشعب قابل للتطبيق بمجرد أخذ المبادرة الجدية لذلك.

عندما يتمّ تشكيل المجتمعات للتمييز بين المواطنين على أساس طائفي فإنّ ذلك يعزّز فرصة اندلاع الصّراعات الطّائفية في المجتمع، وتكون العدالة الاجتماعية كفيلة بتمكين المجتمع لتخطّي الأزمات المماثلة. وهذا ما لحظه الدستور اللّبناني في مقدمته الفقرة الثالثة حيث نصّ على أنّ “لبنان جمهوریة دیمقراطیة برلمانیة، تقوم على احترام الحریات العامّة وفي طلیعتها حریة الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعیة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضیل”.

في حالة بروز فوارق اجتماعية واقتصادية تساهم في ظهور الشعور بالتهميش أو عدم التكافؤ في الفرص والحقوق، مما يؤدي إلى استبدال المؤسسات بالجماعات الطائفية التي تُشعر الفرد بالانتماء في حال غياب العدالة الاجتماعية.

فهل سيبقى لبنان دولة جمهورية ديمقراطية برلمانية أسيرة المفاضلة بين حقوق الطوائف من جهة وبين العدالة الاجتماعية والمساواة؟ مع العلم أنّ الكفّة الراجحة منذ الطائف حتى يومنا تبقى لمصلحة الطائفة وليس الوطن!.

 

حنان جواد

حنان جواد

محامية وكاتبة لبنانية. تهتم بقضايا حقوق الإنسان والعدالة واستقلال القضاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى