ميديا وفنون

بين طوني كتورة وحكّام لبنان… الجمهور “عايز كده”

في زمن الإنهيار اللبناني بكافة أشكاله، يُحتضر اللبنانيون في منازلهم، فيموت بعضهم جرّاء كورونا، ويموت آخرون بجرائم أمنية متنقلة، فيما يموت كثيرون من القهر والحسرة.

ومع أنّ الإقفال العام يزيد حقد اللبنانيين على الطبقة السياسية التي “حبستهم” في المنازل دون بديل يؤمّن قوت عيشهم، يستحيل حقدهم شفقة على حالهم، التي لم ترتقِ إلى حد التمرد بعد!

ومن جدران تفوح منها روائح الإحباط والموت والخوف، تخرج ظاهرة غريبة، لتخرق صمتاً مريباً في منازل موحشة. يخرج “الكابتن طوني كتورة” من فايسبوك، نجماً يتصدّر الترند ويزاحم السياسيين على تويتر. يخرج بضجيجه وعبثيته، فيما يغرق حكّام البلد المنهار في صمت لا قرارة له!

طارحاً نفسه الحل لأوقات الفراغ القاتلة، وحّد كتّورة ناقديه ومعجبينه على السواء، فحظي كالسلطة الحاكمة باهتمام الجميع، فهي تحكم مصائر الناس في لبنان، وهو يتحكم بأوقات فراغهم!

في المقابل، أليس من “التفاهة” وسط جهنم التي نعيشها بكل فصولها، أن يتحوّل شخص يجيد فن التفاهة إلى أسطورة تشغل بال اللبنانيين؟

وهنا لا بد من إنصاف كتورة بعد حملات التنمر التي لحقت به، إذ للرجل حرية تقديم ما يريد، لكن العجيب في ظاهرته، أنّ الجمهور اللبناني بدا كأنّه “عايز كده”!

أمام هذه الظاهرة تبرز تساؤلات حول مصدر “التفاهة” في هذه الظاهرة، وما إذا كانت متأتية من الجمهور نفسه، أم أنّها متجذرة في المنظومة اللبنانية برمتها، واكتملت فصول تفاهتها مع كتورة…

من هو كتورة؟

وبعد أن زاحمت أرقام مشاهدته أرقام نجوم الصف الأول، يتبين أن كتورة يتميّز بأنّه لا يتميّز بشيء فنياً؛ أمّا كلمات أغانيه كـ “بغل جحش وحمار تلاقوا عالطريق… قللو البغل يا حمار… سمعنا نهيق”، فلا هدف منها، ولا مشاعر فيها، إلا في قلب الشاعر، كتورة!

وطغت الفكاهة في “مونولوجه” وغاب حس الفكاهة، وكانت تلقائيته ثقيلة، وحتى تواضعه كان فيه شيء من الغرور، هو الذي قرّر أن يستحدث حسابات جديدة على مواقع التواصل لينتهز فرصة –حقيقة- أنه أصبح حديث الساعة.

وكمن صدّق كذبة الناس ومشى بها، صدّق كتورة أنّه نجم يستحق النجومية، والأخطر أن الجماهير أعطته كل ما يُعطى لـ”النجوم”، فكرّست الكذبة التافهة!

لكن الكذبة استحالت حقيقة، فكتورة حديث الساعة، وضيّع من جهد الناس ووقتهم فصنعوا له صوراً وألقاباً… وهذه التفاهات جميعها تلقى لها جذوراً في النظام اللبناني، وهي تجلّت مع كتورة بلا أي ترقيع، فبدت حادة في إخراجها.

وكما عرّى “المجنون” دونالد ترامب، بعض الأميركيين كاشفاً سخافة تأييدهم له، عرّى كتورة نظاماً تافهاً يحكمه التافهون في لبنان، وكشف أنّ الشعب جزء من هذه التفاهة!

وهي لوقاحة منه أن يضع نفسه بمنزلة أيقونات فنية كالسيدة كفيروز، لكن الشعارات المبجّلة لـ”عملاق الفن وصانع النجوم”، تشبه صنع اللبنانيين لقياداتهم وتمجيدهم لها، سيّما وأن سياسيي لبنان في أدائهم السياسي، ليسوا أفضل من أداء كتورة!

ما هي التفاهة؟ ومن هم التافهون؟

كثر تنبؤوا بعصر التفاهة وأبرزهم الفيلسوف فريديريك نيتشه، وبعضهم ربطها بالعدمية، حيث تحوّر القيم وانهيار الحضارة.

إلى ذلك، رأى الفيلسوف مارتن هيدغر بانفجار هيروشيما توق الإنسان لسيادة العدمية. لبنانياً، وبعد انفجار مرفأ بيروت ثالث أكبر انفجار في العالم، يطغى السؤال: في أي مرحلة من انهيار ثقافتنا نعيش؟ وهل وصلنا إلى مستوى “العدم”؟

وهل يحكمنا التافهون ونظام التفاهة؟ ويا له من سؤال تافه، لأنّ الجواب أتفه! فأن ينتخب اللبنانيون التفاهة، ويلجؤوا لمشاهدة ظاهرة تافهة ليتناسوا خياراتهم التافهة، لهو قمة التفاهة!

نظام التفاهة

وفي كتابه “نظام التفاهة”، يربط الفيلسوف الكندي ألان دونو حالة التفاهة بنظام كامل، قوامه حكم التافهين.

والتفاهة ليست بالأمر الصعب، فـ “لا تقدم أي فكرة جديدة فستكون عرضة للنقد، إرخ شفتيك فكر بميوعة، عليك أن تكون قابلاً للتعليب، لقد تغيّر الزمن، فالتافهون أمسكوا السلطة”.

والتافه وفق دونو هو  “متوسط” سيء القدرات وعديم القيمة، لكنه تبوأ الصدارة ووصل للسلطة، وبات يخطف الأضواء ويوجّه القيم، ليصبح تأثيره رغم تفاهته، بالغ الخطورة!

والنظام التافه هو نظام اجتماعي وسياسي، اقتصادي وإعلامي وفني… يمكّن الحمقى ومنعدمي الكفاءة من السيطرة على الدولة “بالتواطؤ والتآمر”، فهم لبعضهم سند كبير.

ولا عجب إذاً أن نظام الحكم في لبنان مبني على التسويات والمحاصصة، فهي ماهيّة “كلن يعني كلن”، كطبقة يغذي بعضها بعضاً، ويوصل انعدام كفاءتها، لانهيار كلي لمقومات الدولة.

وحكم التافهين يتوجهم رموزاً، فيجلبهم الشعب ويهتف لهم بالروح والدم، ليرتقوا إلى مصاف الآلهة، ويُفهم حينها التوريث السياسي في لبنان، على أنه تقديس لإله، ابن إله!

ثم أليس من التفاهة أن يُعلّق تشكيل الحكومة عند حصة من هنا وثلث معطل من هناك، فيما الإنفجار الإجتماعي يدق الأبواب؟

ولعله من التفاهة أيضاً البكاء على حجارة بلدية طرابلس، فيما أهل المدينة يغرقون في البحر هرباً من الجوع، وفيما تدمر ثلث مدينة بيروت ولم تجد لها من ينعي تراثها. ولهو من التفاهة أيضاً، ألا يُجمع اللبنانيون- كلن يعني كلن- سوى على كتورة!

ومن آليات السلطة التافهة وفق دونو، تجييش مناصريها، واللعب على عواطفهم بعد النجاح بتسطيحها، ليجرد الناس من ملكة النقد، ويحمي الحاكم التافه نفسه من الرقابة والمحاسبة.

فعند تعطيل العقل تصبح الطائفية أهم من الكفاءة، ويصبح للشجرة دين وطائفة! ويصبحون “كلن يعني كلن”، خطوطاً حمر فوق المحاسبة!

واللغة الخشبية هذه يشارك فيها رجال دين وفنانون واقتصاديون، فهو نظام كامل بذاته، وكلما مال التافه إلى السطحية، كلما ازداد نجومية!

النخبة شريكة بالتفاهة!

ولعل أخطر ما في نظام التفاهة، ما أسماه دونو بـ”لعب اللعبة”، عبر كسب الثقة وإعلان الولاء، لضمان سيطرة الأقوياء على الضعفاء، ما يؤدي إلى ازدياد الفساد واللاديمقراطية.

وهذا يبرّر الهوة بين اللبناني الناجح في الخارج، وبين الطبقة الحاكمة الفاشلة. أما ضحية حكم التفاهة فهي الحضارة بحد ذاتها.

 ولا يمكن تبرئة “النخبة” من المشاركة في اللعبة، فهي تحدد معايير القيم المجتمعية. والفنان التافه يجنَّد في أوقات الأزمات لتوجيه الرأي العام لصالح تلك الأنظمة.

وأليس من التفاهة أن يدعم فنان لبناني تزويج القاصرات؟ وأن يحضّ آخر على على عدم أخذ اللقاح؟ وأن ينقل الإعلام أخباراً تافهة على أنها ذات قيمة؟

يرى دونو أن الفقر الفكري والقيمي أرض خصبة للتفاهة، فتصبح الجماهير نهمة لتشرّبها. وبعد إفقار لبنان حتى من حضارته، يبدو جلياً أن محاربة نظام التفاهة، لا يكون عبر مشاهدة التفاهة، ولو من باب “التفاهة”!

فتات عياد

 

فتات عياد

صحافية وكاتبة محتوى، تحمل إجازة في الصحافة من كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى