ميديا وفنون

رحلة في ذاكرة شيخ مصوّري تلفزيون لبنان حسن نعماني

بدأت لعبة الضوء والصورة تأخذ حيزاً من اهتمامات حسن نعماني باكراً. البداية كانت عندما اشترى له والده كاميرا قياس 8 ملم، وكان لا يزال في الثامنة من عمره. منذ تلك اللحظة تغيّرت اهتمامات الفتى البيروتي ابن منطقة رأس النبع. أطلق دراجته الهوائية التي كان يجوب بها شوارع المنطقة، وتعلّق بكاميرته، التي أصبحت ترافقه أينما ذهب، يرصد بها وجوهاً وأمكنة تحوّلت مع مرور الزمن إلى فصول غائبة عن الذاكرة البيروتية.

محطات في مسيرة حسن نعماني

 

زيارة قام بها والد حسن نعماني إلى واصف عز الدين والد “وسام” أحد مؤسسي”شركة “أدفزيون”، وعرض عليه صورة التقطها حسن لشقيقه. لم يكن واصف عز الدين بحاجة إلى كثير من العناء عندما شاهد الصورة ليدرك أنّه أمام موهبة مميزة يحتاجها التلفزيون في بداية انطلاقته. فاتصل به فوراً عارضاً عليه فكرة توظيف حسن في التلفزيون، وكان ذلك في العام 1965.

المحطة الأولى كانت في قسم تصوير الإعلانات في شركة “أدفيزيون”. الفترة التي قضاها في هذا القسم يعتبرها حسن نعماني الأغنى والأجمل في حياته المهنية. نجوم كبار حلّقوا في عالم التمثيل وتقديم البرامج كان هذا القسم منصة انطلاقتهم؛ منهم الفنان الفلسطيني “غسان مطر” ومقدمة البرامج الشهيرة “شارلوت وازن الخوري”.

كان التصوير يجري بأفلام بكرة مدتها لا تتجاوز الدقيقيتين، مما يعني أنّه لم يكن هناك مجال لإجراء أي عملية مونتاج. تفادي الأخطاء والمهارة في التصوير، كانا هما جوهر العمل في تلك الفترة؛ والجميع اكتسبوا خبرتهم من تفاصيل العمل اليومي. يومها لم تكن مادة التصوير السينمائي والتلفزيوني قد دخلت كمادة تعليمية في الجامعات والمعاهد في لبنان بعد.

حاز على اهتمام مخرجين كبار

 

بروز “حسن نعماني” كمصوّر بارع بين زملائه في القسم الذي يعمل فيه، جعل بقية الأقسام تستعين به أيضاً، فيما موهبته لفتت المخرج “مارون بغدادي” وجمعت رحلة عمل طويلة بين الرجلين، استمرت حتى تاريخ غياب المخرج المعروف بحادث عام 1992.

واهتم مخرجون كبار بموهبة “حسن نعماني” في مجال التصوير؛ فكان أن جمعته أفلام تسجيلية مع كل من فؤاد نعيم وجوسلين صعب وغيرهما.

النكش في ذاكرة حسن نعماني يقودك إلى مشهد العداون الإسرائيلي على مطار بيروت الدولي عام 1968. يومها طلب منه مدير الأخبار في القناة 7 كميل منسى التوجه إلى هناك لتغطية الحدث. عندما وصل لم يكن غيره من الصحافيين والمصوّرين قد وصل بعد، وتصدى أحد رجال الشرطة لمحاولته الدخول إلى مبنى المطار، حيث حاول منعه بحجة أنّ التصوير ممنوع. لم يأبه حسن نعماني للتعليمات، فكان أن دفع الشرطي بيده وأكمل طريقه إلى الداخل، من دون أن يفلح رجال الأمن باللحاق به، فكان المصوّر الأول الذي التقط مشاهداً للعدوان.

مع بداية السبعينيات، بدأ العمل التصويري في التلفزيون يأخذ منحى أكثر حداثة. إذ أستقدمت معدات جديدة، مما سمح بإمكان التصوير الخارجي للبرامج والمسلسلات بعد أن كان الأمر يقتصر على بعض اللقطات. شكّلت هذه المرحلة تجربة غنية لحسن نعماني في قيادة فريق التصوير لأعمال مخرجين كبار، منهم باسم نصر وجورج غياض وجورج ابراهيم الخوري.

مسلسل “عليا وعصام” من بطولة محمود سعيد وفدوى عبيد كان الأول في التلفزيون الذي جرى تصوير أكثر من نصف مشاهده خارج الإستديو. شكّلت هذه المحطة نقلة نوعية في حياة حسن نعماني المهنية، وهو اعتمد قاعدة للإفادة من الضوء الطبيعي الموجود في موقع التصوير ومحاولة تحسين ظروفه بواسطة الإضاءة.

خلال التصوير في المناسبات الرسمية، كان لحسن نعماني بصمة مميزة أيضاً. فهو خلافاً لغيره من المصورين_ الذين كانوا يتحركون بكاميراتهم وراء الشخصيات مما كان يسبب الاهتزاز والتشويش في المشاهد التي يتلقطونها، فإنّه اعتمد مبدأ الوقوف في مكان محدد مع تقريب العدسة قدر الإمكان. هذه المقاربة “النعمانية” أصبحت فيما بعد معتمدة من قبل جميع المصورين خلال التقاط المشاهد التصويرية.

كما في الداخل كذلك في الخارج، لحسن نعماني قصص لا تُنسى في عالم المهنة. وهو يحكي قصة تغطيته لمؤتمر القمة العربي عام 1970 في القاهرة، والذي كان آخر محطة سياسية للرئيس جمال عبد الناصر، حيث توفي بعد ساعات قليلة من انتهاء أعمال المؤتمر. يومها كان حسن نعماني في عداد الوفد الرسمي الذي رافق رئيس الجمهورية سليمان فرنجية لحضور المؤتمر.

ولم تكد تنطلق أعمال القمة حتى عُلّقت أعمالها بانتظار مساعي الرئيس السوداني “جعفر النميري” لإقناع ياسر عرفات بحضور القمة، والذي كان قد قاطعها بسبب خلافه مع الملك حسين عاهل الأردن. وتابع نعماني الحدث طوال النهار، وبقي على اتصال مع المسؤولين من مختلف الدول العربية لمعرفة آخر التفاصيل. فيما عُرف بنجاح مساعي الرئيس السوداني قبل غيره من الصحافييين الذين كانوا يغطون القمة. وكان المصوّر الأول الذي التقط صورة الرئيس السوداني وهو يدخل إلى الفندق مصطحباً ياسر عرفات.

حادثة أخرى جرت أمام المصورين، ولكن لم يُسمح للعدسات بإلتقاطها، وهي تمكّن الرئيس عبد الناصر من إقناع الزعيم الليبي معمر القذافي بتسليمه مسدسه قبل الدخول الى قاعة المؤتمر؛ بعد أن كان القذافي قد هدّد بإطلاق النار على الملك حسين عاهل الأردن أمام الجميع في حال دخوله إلى قاعة المؤتمر، وذلك بسبب الحملة العسكرية التي شنّها على منظمة التحرير الفلسطينية في ايلول 1970.

شهادة خبراء عالميين

 

مع بدء العمل بنظام الألوان في تلفزيون لبنان عام 1974، قرّرت إدارة المحطة استقدام الخبير الإيطالي “برونو سالي”، لتدريب المصوّرين على النظام الحديث المزمع اعتماده. لم يمض وقت طويل على بدء ورشة التدريب حتى توجّه الخبير الإيطالي الى حسن نعماني قائلاً: “أرجو منك أن تهتم بزملائك فأنت المؤهل لقيادتهم”.

في ذاكرة “حسن نعماني” مشاهد لا تنسى من يوميات الحرب اللبنانية؛ ربما يكون أقساها مشهد تلك الطفلة التي التقط لها صوراً مرتين في نفس اليوم. صباحاً، عندما كانت تلعب أمام منزلها في الخندق الغميق؛ ومع حلول الظلام، جثة هامدة في براد مستشفى المقاصد بعد القصف الذي تعرّضت له المنطقة.

مسيرة تاريخية لم تنل ما تستحق

من خلال محطاته السياسية التاريخية، عرف حسن نعماني بانقلاب العميد عزيز الأحدب في 11 أذار 1976 قبل ساعات من حدوثه، وساهم في تحضير أرضيته التلفزيونية؛ وذلك عندما حضر أحد ضباط الجيش إلى مبنى القنال وأبلغ مدير الأخبار عرفات حجازي، والذي كان حسن نعماني قد أبلغه أنّ العميد الأحدب سيحضر إلى مبنى القنال 7 لإذاعة البلاغ رقم 1؛ كما طلب منه أيضاً عدم التوجه إلى مبنى القنال 5 في الحازمية.

حزن عميق يشعر به حسن نعماني جرّاء فقدان بعض التسجيلات النادرة من أرشيف التلفزيون؛ ليس بسبب تعرّضها للتلف أو السرقة فقط، بل إنّ عدم توفر المال الكافي لشراء شرائط تسجيل جديدة، دفع بالقيّمين على إدارة البرامج إلى استعمال نفس الشرائط أكثر من مرة لتسجيل برامج جديدة.

خمسة وثلاثون عاماً أمضاها حسن نعماني في تلفزيون لبنان قبل أن يتم إقفاله عام 2001 وتصفية حقوق العاملين فيه. سنوات يقول عنها إنّها كانت حافلة بالإنجازات المفتوحة على مساحات واسعة من اكتساب مهارات جديدة كل يوم. لكن في نفس الوقت كان للمعاناة فيها نصيب واسع. كان أبرز تلك المعاناة أنّ نعماني، والذي لُقب بشيخ المصورين واعتمده مخرجون كبار لم ينصفه التلفزيون. فهو طوال مدة عمله لم ينل الترقية التي يستحق، والسبب أنّه لم يقف يوماً على باب زعيم أو متنفذ. قمة المفارقات في حياته المهنية هي إبعاده عن قسم التصوير عام 1988 إلى قسم “الستايلات” الذي استمر فيه حتى أخر يوم عمل له في التلفزيون، والسبب الإتيان بمصور آخر غيره على قاعدة المحاصصة السياسية والطائفية.

إقفال التلفزيون لم يقفل باب العمل بوجه حسن نعماني. عمله مع المخرج مارون بغدادي جلب له شهرة واسعة في أوساط مخرجين عالميين؛ فاتصلوا به لتصوير أفلام لهم في أكثر من بلد في العالم.

نبيل المقدم

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

نبيل المقدم

كاتب وصحافي وباحث سياسي لبناني. صدر له العديد من المقالات والمؤلفات ابرزها "وجوه واسرار من الحرب اللبنانية".

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى