منوعات

تبعات الفراغ الدستوري محلياً وإقليمياً

أصبح التراشق الكلامي بين بعبدا وبيت الوسط روتيناً يومياً لدى اللبنانيين. اتهاماتٌ متبادلة بالتعطيل في حين يبدو أنُّ البلد يتدحرج نحو “جهنم”، ولا انفراجاتٍ قريبة. الثنائي الشيعي منكفىء عن أي مبادرة جدية، حتى أنَّ محركات بكركي قد انطفأت. أمّا الخارج، فيشدّد على ضرورة تشكيل حكومة لكن دون تدخل لدى الأطراف. وفي ظلّ استحقاقات دستورية العام المقبل، بدأت أسئلة تفرض نفسها: ماذا يحصل إذا بقي الفراغ حتى موعد الانتخابات النيابية والانتخابات الرئاسية  في عام 2022؟ وكيف سيتأثر الاقتصاد المأزوم؟ وماذا عن تعاطي المجتمع الدولي مع لبنان؟

فراغ السلطة التشريعية

أكدَّ أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية د. حسين عبيد في حديثٍ لـ “أحوال”، أنَّ المحظور الأكبر هو الفراغ في السلطة التشريعية، التي هي أم السلطات تحديداً في النظام البرلماني؛ كون المجلس النيابي يراقب عمل الحكومة ومن دونه لا يوجد أي رقابة. بل وأنّ الدستور اللبناني لحظ الفراغ الممكن حصوله في السلطات، فيما لكل سلطة مادة دستورية تحدّد عمل المجرى الدستوري للبلاد.

الحكومة

الحكومة الموجودة، إن كانت بكامل صلاحياتها أو أنها تصرّف الأعمال هي صاحبة السلطة التنفيذية يقول عبيد، وذلك حسب المادة 17 من الدستور اللبناني؛ وعليها أن تجري الانتخابات النيابية. وبحسب القانون القائم حالياً، يجب أن يصدر مرسوم الهيئات الناخبة قبل 90 يوماً من انتهاء ولاية المجلس النيابي، وأن تتم الانتخابات قبل انقضاء الولاية بشهرٍ على الأقل.

المجلس النيابي

يذكّر عبيد بسوابق عدة حصلت عند انتهاء ولاية المجلس النيابي، أهمها في الحرب الأهلية، حيث أنّه كان من المفترض أن تجري الانتخابات عام 1976، ولكن اندلاع الحرب قبلها بسنة، فرض التمديد على المجلس النيابي. وهنا يؤكد عبيد، أنَّ هذا ما سيحصل بحال لم تستطع الحكومة إجراء الانتخابات النيابية في العام المقبل، حيث أنَّ الدستور اللبناني واضح في بنوده 55 و 65 و 77 . إذ بحال حُلَّ المجلس النيابي، يجب أن يتضمن مرسوم الحل دعوة الهيئات الناخبة خلال شهرين او ثلاثة أشهر. واذا لم تجرِ الانتخابات وفقا لأحكام المادة 25 من الدستور، يعتبر مرسوم الحل باطلاً، ويعود المجلس النيابي لممارسة مهامه الدستورية، وذلك لأنّ الهدف الاستراتيجي هو استمرار عمل السلطة  واستمرار عمل الدولة؛ وهذا لا يمكن أنّ يحصل بدون سلطة تشريعية. ويؤكد عبيد في هذا السياق، أنَّ السلطة التشريعية في لبنان لم تعانِ من فراغٍ يوماً منذ أول انتخابات نيابية عام 1922 حتى اليوم.

رئاسة الجمهورية

إنّ تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية ليس سابقة في لبنان، فتعطيل النصاب لانتخاب الرئيس سمة متكررة. وقد حصل ذلك في عهدي الرئيسين اميل لحود وميشال سليمان، بحسب عبيد. حيث تم تعطيل النصاب وأفضت البلاد بدون رئيس. وإذا ما أٌعيدت الكرة، وتم تعطيل انتخاب الرئيس قبل انتهاء الولاية في تشرين 2022، يغادر الرئيس قصر بعبدا وتتولّى الحكومة السلطة التنفيذية وذلك وفق المادة 62 من الدستور، التي تنص على إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء مجتمعاً بحال شغور موقع الرئاسة لأي سببٍ كان، وبذلك لا يكون هناك فراغ، كما حصل في المرتين السابقتين.

شلل بعمل الدولة وتعديلات دستورية واجبة

رأى عبيد أنّ عدم تنفيذ الاستحقاقات الدستورية يسبب شللاً بعمل الدولة وعدم انتظام مؤسساتها، وسيكون البلد بحالة تصريف أعمال دائمة. لذلك يحتاج الدستور اللبناني إلى بعض التعديلات، لاسيّما في موضوع المهل، إن كانت مهلة الاستشارات النيابية لرئيس الجمهورية لتكليف رئيس الحكومة، أو مهلة تشكيل الحكومة للرئيس المكلّف وعملية البت بتشكيلها بين الرئيسين، وطبعاً مهلة انعقاد المجلس النيابي لانتخاب رئيس الجمهورية ونصاب الجلسة؛ فالتعديل واجب لتلافي هذه المشاكل التي عانى منها لبنان بممارسة العمل الدستوري وتحديداً بعد اتفاق الطائف.

التأثير الاقتصادي للفراغ الدستوري

أكدت الأستاذة المحاضرة في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية د. سابين الكيك معلوف، أنَّ للفراغ الحكومي تأثيراتٍ مباشرة على المشهد الاقتصادي والاجتماعي اللبناني، في ظل أزمةٍ مالية مدمّرة تعيشها البلاد، وأولى هذه الارتدادات نشهدها اليوم على مسار إقرار الموازنة والجدل الدستوري القائم حولها.

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الجهات الدولية ترتكز بصورة أولية في مفاوضاتها مع الدول على أُسس الأرقام الرسمية بالموازنة، مما يعني عملياً، ارتباط المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ارتباطاً وثيقاً بإقرار الموازنة العامة، التي يفترض أن تعكس خطة الحكومة الإنقاذية. إذ بغياب هذه الاخيرة، تتجلّى الارتدادات الاقتصادية الأخرى للفراغ الدستوري، وهي لا تقل اهمية عن السير دون موازنة؛ لذلك على حكومة تصريف الأعمال واجبٌ وطني، يقضي بانعقادها لدرس وإقرار الموازنة في هذه الظروف الدقيقة لكي لا تتحمّل مسؤولية العودة إلى مرحلة مالية فاشلة طبعت تاريخنا الحديث.

تعاطي دولي من نوع جديد مع لبنان

رأت معلوف في حديث لـ “أحوال”، أنَّ البلد يبدو مقدماً على تعاطي دولي من نوع جديد مع السلطة اللبنانية والقطاع المصرفي، بحيث لن تكون الدعاوى القضائية في سويسرا آخرها؛ لأن من فقد ثقة الجهات المعنية دولياً ليس فقط الطبقة السياسية الحاكمة، ولكن أيضاً الأجهزة المالية والمصرفية بعد أن انزلق مصرف لبنان بسياساته الهندسية الغوغائية، وتبعاً البنوك اللبنانية بمطامعها الربحية المفرطة إلى خارج المنظومة الدولية. وتؤكّد معلوف في هذا السياق، أنّه عبثاً ستحاول أي حكومة وضع خطة مالية مقنعة للمجتمع الدولي دون الكشف عن الأرقام الحقيقية في المصرف المركزي، فكيف الحال إذا استمرينا دون حكومة تتمتع بكامل الصلاحيات الدستورية، وتكون قادرة على القيام بالخطوات التنفيذية المفروضة عليها دولياً؟

واعتبرت معلوف أنَّ لبنان مقبل على مواجهاتٍ مالية جدية مع الخارج، إن كانت مع صندوق النقد الدولي أو مع كل المؤسسات التي تدور في فلكه، وتحديداً حاملي السندات الحكومية اللبنانية؛ إذ ليس من المستبعد أن تبدأ مسيرتهم القضائية تجاه الدولة اللبنانية المتعثرة حالما تتحسن الظروف الصحية جراء أزمة كورونا.

أية حكومة لن تكفي

شدّدت معلوف على أنَّ الأزمة النقدية بطبيعتها هي تقويضٌ لعنصر الثقة المالية في أي دولة، لأن العملة ليست وسيلة دفع فقط ولكن أيضاً أداة ائتمان، ومخزن استقرارٍ للقيم المالية؛ ومخطئٌ من يعتقد أنَّ قيمة العملة الوطنية تتحكّم بها الإجراءات البالية التي أغدقت بها علينا الجهات المصرفية، سواء الهيئة الناظمة أو المصارف العاملة في لبنان.

وتتأسف معلوف أنّه لغاية اليوم، يمارس اللوبي المصرفي تأثيراً كبيراً ومباشراً عبر أجهزة الرقابة المالية أو عبر اللجان النيابية، مؤكدةً أنَّ استمرار النزيف المالي سيؤدي إلى الجفاف القاتل، والشفاء لن يكون إلا باستئصال الأعضاء التي تغلغلت فيها الأورام الخبيثة، وزرع أعضاء حيّة نظيفة قابلة للحياة السليمة والمعافاة. ولذلك العبرة ليست بحكومة، أية حكومة، وإنّما بسلطة تنفيذية تتمتع بثقة المواطنين لكي تُطمئن الجهات الدولية. ولفتت معلوف إلى أنَّ الميزان الذي يُكيل به المجتمع الدولي أخطاء السلطة الحاكمة في لبنان، هو مبدأ “الشعب وحده مصدر السلطات”.

اتسمت مرحلة ما بعد 2005 في لبنان بتصريف الأعمال. فيما التعطيل والفراغ وانتظار تشكيل الحكومات يكاد يكون أكثر من فترة الحكم نفسها. وبالكاد يتعايش اللبنانيون تبعيات تعطيل عمل الدولة اليوم، ويبدو أنّ القادم أخطر بكثير إذا لم يحكّم المسؤولون ضمائرهم، تحديداً من ناحية المجتمع الدولي، وإيجاد بعض الدول موطئ قدمٍ لها في لبنان. فهذا الفشل الذريع في إدارة البلاد قد يعيد مقولة “حرب الأخرين على أرضنا”.

محمد شمس الدين

 

 

 

محمد شمس الدين

كاتب وناشر على مواقع التواصل الإجتماعي ومعد برامج وتقارير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى