منوعات

“ياسمينا” لرانا أبي جمعة: المرأة والطائفية والحرب الأهلية في رواية

عامر ملاعب

بمزيج من الواقعية المفرطة وشذرات من عالمٍ متخيل، تقدم الإعلامية والكاتبة رانا ابي جمعة روايتها الأولى “ياسمينا”، وهي المحاورة السياسية والثقافية المخضرمة، بين النص والإذاعة أو عبر الشاشة الصغيرة تطرق باب الرواية بتجربة جديرة بالقراءة والمتابعة.

في هذه الرواية حرصت أبي جمعة على مقاربة ملفات لبنانية، وعربية، آنية قلّما التفتنا إليها ونحن الغارقون في بحر الأزمات المتواصلة، وبنحو 170 صفحة من القطع الوسط، وبأسلوب سلس ورقيق بثت كلماتها العابقة بحرارة المشاعر الحقيقية.

وإذا كانت الرواية تمثّل نوعًا من الذاكرة الجمعيّة المميّزة لكلّ جغرافية بشريّة، وهي بمثابة “خزانة الحكايات” التي تحفظ المزايا المجتمعيّة والأنثروبولوجيّة لكلّ جغرافية بشريّة، وتمكن من خلالها الإطلالة على العادات والتقاليد وأنماط العيش والفنون السائدة في كلّ عصر إلى جانب كلّ التفاصيل الحياتيّة الأخرى الخاصّة بالحب والزواج والصداقة والرفقة…، فهي في هذه الأسطر قد قاربت مواضيع غاية في الحساسية لعدة نواحٍ، وإن كانت قد تعمّدت التلميح والإشارة المبهمة في تسمية الأشياء والأماكن بمسمياتها، ولكنّها كانت واضحة وضوح القضايا الشائكة والمتداولة.

فكيف لفتاة في مقتبل العمر تتعرض لكل مساوئ وأزمات المجتمع المعاصر أن تقارب قضايا خطيرة وما زال أبطال الرواية أحياء، وهم ممن حملوا في دواخلهم كل موبقات وآثار التمييز العنصري الطائفي اللبناني وبقايا الحرب الأهلية وكل شرورها وتعقدت مسائل ونظريات قبلية غابرة في القدم تتقنع بقناع الدين والمذهب والطائفة.

تتعاطف بطلة الرواية مع جلادها حين تقرأ في سيرته وسلوكه المشبع برذائل الحرب الأهلية، وتتدخل الكاتبة في كثير من اللّحظات لتبرّر السلوك الغريب لأفراد تربوا على لغة “نحن وهم” وتطرح الأسئلة الصعبة عمّن هم ومن نحن؟.

لا تغيب عن الرواية عقد قوانين الأحوال الشخصية وفساد إدارات الدولة ورجال الدين وهدر حقوق النساء ليزيد الطين بلّةً تدخّل المحامين بأساليبهم الملتوية لجني الأرباح المادية على حساب ضحاياهم وما يتركه ذلك من مظالم وعقد نفسية واجتماعية وأخلاقية.

هي الرواية المحمّلة بكمّ هائل من القضايا الجريئة لكاتبة شابة، أن تقارب المحظور في عالم النساء بوصفها لحظات نسائية حميمة مؤلمة بمشاعر المرأة المغتصَبة والمعنّفة، حيث تتغلغل الكاتبة في نفوس أبطالها إلى درجاتٍ عميقة تُجبر القارئ على تحسّس جنباته وصدره وتدفعه نحو التركيز المجرّد على سماع الأصوات الداخليّة الثريّة والمدفونة تحت غبار الإهمال والتجاهل.

في هذه الرواية تحاول رانا – المرأة، أن تتحدّث باسم كلّ نساء الأرض والوطن ومظلوميه، تحاول أن ترفض القهر والألم على طريقتها، هي من تحاول كسر القيود التي ولدت فيها أجيال وأجيال دون القدرة على التحرّر الصحيح، تحاول ليّ ذراع الثالوث المضطهد القابع على صدر المواطن: المال والسلطة والدين. وهي بذلك تدفع نحو آفاق جديدة ملأى بالنشوة والإحساس الغامر بالسعادة عند الثورة على التقليد والظلم ودفاعًا عن أخريات وآخرين لم يصل صوتهم للعامة أو يطرق أبواب الظلم.

في هذه الرواية حالة دقيقة لما يمكن لإمرأة معاصرة أن تعانيه، لا بل لكلّ فئات المجتمع أن تقع فيه من ظلم واضطهاد ذكورًا وإناثًا، ولكن ما يمكن أن تأخذه على الكاتبة من ملاحظات عديدة لا يمكن القفز فوقها وهي إفراطها في الواقعية دون أن تسمّي الأشياء بمسمياتها. وهنا الطامة الكبرى في مقاربة القضايا الشائكة: هل يلجأ الكاتب إلى التصريح الصريح أم يبقى على هامش التلميح والإشارة الواضحة؟ وهل تفيد المباشرة أم المداورة في إيصال الفكرة والموقف والنقد؟.

مهلًا
وكأنّنا بها رانا أبي جمعة تجيب “لا تحمّلوني أكثر ممّا أحتمل، ثورتي من خلال هذه الرواية تخاطب عقول من يقرأ دون أن تستفز الغرائز، فلا يصلح مجتمع بخطاب ورواية وموقف بل هي مسألة تراكمية ولوقتٍ طويل”.

“ياسمينا” رواية عن أمراض مجتمع فتكت به الطائفية والمحسوبيات وتدفع الثمن فيه الضحايا ويكمل الجلاد مسيرته مختالًا، بسلاسة وخفّة أخدتنا رانا رحلةً في بلد امتهن الخذلان.

 

عامر ملاعب

عامر ملاعب

كاتب وصحافي لبناني، يحمل شهادة الدبلوم في التاريخ من الجامعة اللبنانية، عمل في صحيفتي الأخبار والحياة. أعد وقدم برامج في قناة الثبات الفضائية، وإذاعة صوت الشعب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى