منوعات

واشنطن في خدمة اقتصاد حزب الله

منذ نحو عام بدأت تظهر نتائج تضييق الخناق الأميركي على الاقتصاد اللبناني؛ بالمبدأ لم يكن المُستهدف هو الدولة اللبنانية إنّما حزب الله، لكن تجربة 1982 – 2018 رسّخت قناعة واشنطن بأنّ محاصرة حزب الله مستحيلة ما لم يُحاصَر لبنان كله.

وفي أكثر السيناريوهات الأميركية تفاؤلاً، كان هناك من يسوّق أنّ الأم التي لن تتمكّن من شراء الحليب لأولادها ستهرع الى الشارع لشتم حزب الله “كونه المسؤول عما وصلنا إليه”.
واذا تزامن هذا كله مع تهويل بالعقوبات على حلفاء الحزب الأقربين والأبعدين، فإنّ الحزب سيكون أمام عزلة غير مسبوقة من جهة وانهيار شامل تحته وحوله من جهة أخرى.

وهكذا اعتمد الأميركيون 4 مسارات:

المسار الأول يضع حداً لموارد المصارف اللبنانية التاريخية من عمليات تبييض الأموال، حيث التزمت المصارف بجميع الضوابط الأميركية في ما يخصّ تحويل الأموال، ولم يعد يمكن لأيّ رجل أعمال لبناني تحويل الأموال دون تبيان مصدرها الحقيقي.
المسار الثاني قضى بخفض الكتلة النقدية المتداولة في السوق بالدولار عبر هندسات رياض سلامة المالية، التي دفعت المصارف إلى التهافت على سحب كل دولار ممكن الوصول إليه سواءً في خزائنها أو بيوت المودعين لإعطائه لسلامة، والحصول في المقابل على مزيد من الأموال الوهمية.

المسار الثالث، منع تدفق أيّة أموال محتمل ورودها سواءً قروض أو استثمارات في البنية التحتية أو من النفط.
المسار الرابع، إقفال الحنفيات التي تقطّر بعض الدولارات كالسياحة وغيرها، عبر إيجاد الذرائع اللازمة لحث كل ما يمكن من شعوب على مقاطعة بيروت.

وعليه، دخل البلد في نفق الانهيار الطويل، لكن المفارقة أنّ حزب الله لم يحاول أبداً مصارعة الأميركيين أو مجابهتهم أو التصدّي لهم، إنّما وضع هذا جانباً وركّز على كيفية التعايش مع هذه الحرب والإستفادة منها. وفي خلفية رأسه، تكرار للسيناريو العراقي، حيث خاضت الولايات المتحدة المعارك وربحت إيران النفوذ.

واذا تمعّن الأميركيون قليلاً في المشهد اللبناني، فماذا سيرون اليوم؟

أولاً، انهار القطاع المصرفي الذي كان مسيحياً قبل الطائف، ثم صار برأسماله وكبار موظفيه مسيحياً _ سنياً بعد الطائف. وبالتالي دمّرت أميركا مالية جميع المكوّنات الطائفية، خصوصاً البطريركية المارونية والرهبانيات ودور الإفتاء، فيما مالية حزب الله آمنة مستقرة بعيداً عن المصارف.

ثانياً، إنهار قطاع الإستيراد والتصدير الشرعيين، الذي كان مسيحياً قبل الطائف، ثم صار مسيحياً _سنياً بعد الطائف؛ وهو قطاع حكمته لعقود امبراطوريات احتكارية لها نفوذها الكبير في الأصرح الدينية. وبموازاة انهيار هذا القطاع، سُجّل صعود استثنائي لقطاع الاستيراد والتصدير غير الشرعي الذي كان سنياً شيعياً منذ سنوات، لكن قوافل البقاع تجعله شيعياً بامتياز اليوم؛ وهو ينقل كل مقاليد التجارة من مكان إلى آخر، مغنياً بيئة حزب الله على حساب البيئات الأخرى. وهذه تعتبر خدمة ثانية من واشنطن لحزب الله.

ثالثاً، انكشاف مجموعة الصناعيين، المسيحيين بامتياز، الذين باعوا لعقود وهماً كبيراً بآنهم يُصنّعون فيما هم يستوردون بالبراميل ثم يعيدون التفريغ والتوضيب، ويمهرون العلب الصغيرة بختم “صنع في لبنان”، ليتبيّن اليوم أنّ جميع منتوجاتهم تُصنّع خارج لبنان ويُعاد تعليبها في لبنان. والصناعة بالنسبة لهم تحايل كبير وتهرّب ضريبي هائل. هؤلاء كانوا يوزّعون فتات الفتات على الجمعيات والمواقع الإلكترونية ودور العبادة في مجتمعهم، لكنهم ينكفئون اليوم ليزداد البؤس بؤساً.

رابعاً، انهيار كامل للقطاع الخاص وصل حتى آخر القلاع المتمثلة بالمؤسسات السياحية، حيث العمال من جميع الطوائف طبعاً، لكن أرباب العمل مسيحيين بأغلبهم؛ وهو ما سيفضي الى زوال اخر قشرة من الاقتصاد المسيحي التاريخي.

وهنا ثمة قطاعين أساسيين انتهيا أيضاً، هما تجارة السيارات الجديدة والقديمة، وقطاع البناء من المهندسين وتجار الحديد والألمنيوم والزجاج الى المفروشات؛ فأيّ تجوال سريع على الأوتوستراد بين جبيل والدورة يبيّن من كان يقود هذه القطاعات وأية نهاية يواجه اليوم. مع العلم أنّ المجتمع المسيحي خسر الكثير من حرفييه وميكانيكييه لمصلحة التجار، فيما تشهد المجتمعات الأخرى إقبالا كبيراً ممن باتوا يريدون أن يصلحوا سياراتهم أو مفروشاتهم بدل استسهال تبديل القطع أو رميها وشراء أخرى.

خامساً، انهيار قيمة الأجور وتعويض نهاية الخدمة؛ فرغم تراجع جاذبيتهما قليلاً في الأعوام القليلة المقبلة، لكنهما بقيا أساسيين جداً لفرد على الاقل في كل بيت مسيحي وسني. وقد بذلت بعض الجمعيات والأحزاب المسيحية جهداً كبيراً لإقناع الشباب بالتقدم إلى الوظيفة العامة، غير أن ذلك سيكون مستحيلاً اليوم، ويكفي أن تسمح القوى الأمنية بالإستقالة من السلك لتسمعوا أرقاماً خيالية.

سادساً، شحّ الدولار لدى جميع المكوّنات اللبنانية بإستثناء ذلك “البلوك” الكبير جداً المكوّن من المتفرغين في حزب الله؛ حيث عمدت غالبية الجمعيات والمؤسسات والشركات إلى إيجاد مخارج للإستعاضة عن الدفع بالدولار بعملة أخرى، باستثناء حزب الله الذي يواصل توزيع “فريش دولار” من مصادر لا تنضب.  وفي ظل انهيار العملة الوطنية بات من يقبض مئة دولار في الحزب أشبه بمن يقبض 400، َومن يقبض 1000 أشبه بمن يقبض 4000.

أما الأهم من هذا كله فهو التنظيم؛ الحزب المنظم يحسب ويتحسّب، بخلاف المجموعات الأخرى وبخلاف الدولة المركزية، وبخلاف كل شيء آخر: إذا انقطع البنزين غداً، سوف لن يتمكن الموظفون في السفارة الأميركية من إنارة لمبة في مكاتبهم لأنهم لا يتحسّبون، حالهم من حال لبنان كله، باستثناء حزب الله.

فها هي تسريباته تتحدث عن مخزون نفطي مخبأ في الأراضي السورية يكفي المولّدات والسيارات في مناطق نفوذه لخمس سنوات أقله. حلول التزوّد بالإنترنت في حال انقطاع الإنترنت الرسمي جاهزة أيضاً. أمّا  الغذاء، فها هي مخازن النور توثّق ببطاقاتها يومياً أنّ ما من شيعي سيُذل ليحصل على المواد الغذائية الأساسية، علماً أنّ ممّرات الغذاء وكل الأساسيات باتت محاطة بحماية أكبر من ممرات الصواريخ.

ولا شك أبداً أنّ من يدقّق بحركة التجارة سيكتشف نزوحاً هائلاُ من جميع المناطق نحو الضاحية التي كان مجمع قاروط فيها أول من يستقطب الزوار المسيحيين والسنة والدروز إليها لتسوّق الأساسيات، فيما بات هناك ألف قاروط اليوم يبيعون جميع أشكال وألوان المنتجات الغذائية والإستشفائية والبنائية والديكورية والرياضية والكهربائية والتكنولوجية، بأسعار أرخص من جميع السوبرماركت والأسواق في المناطق الأخرى، بما في ذلك طرابلس.
وعليه، فإنّ بيئة حزب الله التي كان يُفترض بالخناق الإقتصادي أن يدفعها إلى الثورة عليه، إنّما تشعر اليوم بالأوضاع الصعبة، لكنها تعلم أن وضعها أفضل من جميع المكوّنات الأخرى رغم الأوضاع الصعبة. ومن يفترض بهم أن يثوروا اليوم ضد الحزب يقصدونه للحصول على بطاقات الدعم الغذائي والإستشفائي؛ فالضاحية أقرب لهؤلاء من واشنطن، وهم يعلمون أنّ ما يُمكن أخذه بالسلم من حزب الله أكثر بكثير مما يستحيل أخذه بالحرب.
كل ما سبق لا يحتاج إلى محلّلين عظماء لتبيانه أو شرحه، فهو شديد الوضوح. والسؤال الرئيسي هو لماذا تواصل واشنطن فعل كل ما تفعله اذا كان المستفيد الأول والأخير من كل ما تفعله هو حزب الله؟

غسان سعود

غسان سعود

كاتب وصحافي لبناني.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى