مجتمع

في يوم الاستقلال: دُحِرت فرنسا وصمد حيُّ “البونجور”

عندما تسير في هذا الحيّ من بلدة حوش حالا البقاعية، لا يسعك سوى أن تشعر أنّ  في حِقبة من الزمن تبعد ما يقارب مئة عامٍ عن وقتنا هذا. مبانٍ من طابقين، تتشابه في تصميمها ونوافذها وأبوابها. ترافقك في طريقك عن اليمين والشمال، وكذلك تفعل أحواض الزهور القابعة أمام كلٍّ منها، ناهيك عن الأشجار التي تحرسها وتضاهيها طولاً. وإن تساءلت عن الرقم أعلى كلٍّ منها، هنا 1933 وهناك 1943، فهو يدل على تاريخ تشييدها.

Photo by: Alaa Tarshishi

هو حي “البونجور”، الذي يحمل التحية الصباحية الفرنسية اسماً له، وربطاً بذلك يمكنك فك شيفرة الحجر المزروع عند أوّل الحي، والذي حفر عليها حرفان، “RF”  في دلالةٍ على دولة الانتداب République Française أو الجمهورية الفرنسية. وهو الوسم الذي تركته فرنسا في مختلف المنشآت التي بنتها في مستعمراتها.

Photo by: Alaa Tarshishi

عام 1926 بنى الفرنسيون مطار رياق، على مقربةٍ من السكّة الحديّد، ومن ثمّ استأجرت وزارة الحرب الفرنسية عقاراً قريباً من المطار، العقار 410، الذي كانت تعود ملكيّته إلى سيّدةٍ لبنانية عرفت بمدام بيطار، وهي زوجة ضابط فرنسي، لمدة 99 عاماً مقابل 5 قروش عن كلّ متر مربع.

بنت وزارة الحرب حينها في العقار مخفراً للدرك واسطبلاتٍ للخيول ومساكن للضباط في الحي الذي يعرف اليوم بحيّ السعيدة الواقع شمال سكة الحديد في بلدة حوش حالا، أو حي البونجور بحسب مستندات السفارة الفرنسية.

 

Photo by: Alaa Tarshishi

على مرّ السنين، سكن الضباط وموظفو السكة الحديد ومن ثم موظفو مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية وعائلاتهم في هذا المجمع المكوّن من 23 مسكنٍ. إبراهيم الحرفوش، أحد سكان الحي، يعيش في أحد بيوته منذ العام 1972، ومنذ ذلك الحين حرص على ألّا يغيّر في تفاصيله الداخلية والخارجية. الحرفوش يقول إنّ نمط البناء نفسه ينسحب على مختلف المساكن، مع الإشارة إلى أنّه ينسحب أيضاً على كافة المجمعات السكنية التي بنتها فرنسا في مستعمراتها. وفي ذلك الحين، كان هناك نظام معيّن يعيش أهالي الحيّ وفقه. فمن الساعة الثانية بعد الظهر وحتى الرابعة، هي فترة الغداء والنوم التي ينقطع فيها الضجيج. ويضيف: “لا أحد من السكان كان يقطع شجرةً، وتشذيبُها يتمّ في الوقت نفسه وبالشكل نفسه، على اعتبار أنّ هذه الأشجار ليست لصاحب البيت بل هي من معالم الحي. وأمام كلّ الأبنية أحواض وردٍ، كان لها مسؤولٌ عنها يسقيها ويعتني بها.”

Photo by: Alaa Tarshishi

يحزن الحرفوش لحقيقة أنّ بعض الواجهات تغيّرت، ولكنّه يؤكد أنّ ذلك لم يلغِ تميّز الحيّ ببيوته التي تحمل الطابع الفرنسي والنكهة اللّبنانية، فالحي دائماً نظيف ومعظم سكانه من المتعلّمين والمثقفين الذين ينعمون بحياةٍ هادئة.

منذ ما يقارب العشرة أعوام، عمدت السفارة الفرنسية إلى بيع العقار، وبعد أخذٍ وردٍّ، اشترى السكان البيوت التي يقطنونها. وعما إذا كان من الممكن أن يبيع بيته يقول الحرفوش: “الأرض والعرض والبيت من المقدّسات. وكيف يمكن للإنسان أن يعيش بلا بيته وذكرياته؟ّ”.

Photo by: Alaa Tarshishi

دولة الانتداب رحلت، ونحن نحتفل بالذكرى الـ77 للاستقلال، ولكن لا شك بأنّ “الأم الحنون” تركت آثارها في حجر وبشر بلادنا، وحيُّ البونجور من آثارها المتروكة هناك، قرب بقايا السكّة الحديد على مشارف مطار رياق.

 

آلاء ترشيشي

آلاء ترشيشي

مذيعة ومقدمة برامج. محاضرة جامعية. حائزة على ماجستير في العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى